أثيريات

الكاتب والإعلامي زاهر المحروقي يكتب لـ “أثير :حضور عُمانيٌّ في أصقاع الدنيا

حضور عُمانيٌّ في أصقاع الدنيا

أثير- زاهر بن حارث المحروقي

من حُسن حظنا - أنا ورفيقي سيف المحروقي - أننا صادفنا الشيخ مسعود بن عبد الله الريامي في الطائرة المُقِلَّة لنا إلى زنجبار في زيارتنا الثانية، فقد كان نعم الرفيق في السفر، وأفادنا بمعلوماته الوافرة عن “المدينة الحجرية” وسكانها وتاريخها، إذْ يكاد يعرف بيوتها بيتًا بيتًا، وأدين له شخصيًّا بالفضل في تعريفي بالبيت الذي دخله أبي مَدْعُوًّا على الغداء في أول أيام هجرته إلى زنجبار وهو “بيت المدفع” للشيخ هاشل بن راشد المسكري.

خصص لنا الشيخ مسعود يومًا للمدينة الحجرية، بدأناه بزيارة أحد بيوت عائلته التي أعيدت إليهم بعد أن صادرها الانقلابيون، وهو البيت الذي سكنه التاجر الألماني رودولف هاينريش روته، الذي تزوج السيدة سالمة في تلك القصة المشهورة. وقد دخلتُ إلى غرفة نومه، وأنا أتصور مشهد ما حدث.

بدا لنا مسعود شخصية خرجت من صفحات التاريخ، فقد كان يروي حكايات البيوت وسِيَر أصحابها الذين مرّوا من هنا وتركوا آثارًا لا تُمحى. كنتُ مأخوذًا بما أراه: مسجد اللمكي وبيته وقبره، مسجد المنذري وقبره وقبر ابنه، مسجد بنت جمعة، مسجد الاستقامة، بيت أحمد بن النعمان الكعبي مبعوث السيد سعيد إلى أمريكا، بيت المرجبي وقبره، الأبواب الخشبية المزخرفة، الشرفات التي تطل على البحر، والنقوش التي تهمس بأسرار الماضي. وكنتُ كلما تعمّقت في المشهد يزداد خيالي وقودًا، وصرتُ أستحضر صور أولئك الرجال الذين امتدت أيديهم إلى آفاق بعيدة، في التجارة والسياسة والعلم والثقافة والسياحة، وكأنّ “المدينة الحجرية” كانت مصنعًا للرجال العظام.

وإذا كان التجول في “المدينة الحجرية” أضاف لي الكثير، فإنّ أجمل هدية قدّمها لي الشيخ مسعود، هي أنه عرّفني بالأكاديمي والباحث العُماني الدكتور حارث الغساني، وهو باحث جاد متخصص في تاريخ زنجبار، صدر له كتابٌ باللغة السواحلية تحت عنوان “وداعًا للاستعمار، وداعًا للحرية”، وهو الآن يعمل بكلِّ هدوء وبعيدًا عن الأضواء على تأليف كتاب ضخم عن زنجبار من خمسة مجلدات، وكتاب آخر عن تجارة الرقيق من أربعة مجلدات، بعد أن اطلع على أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة وثيقة من دول مختلفة.

زنجبار- أرشيف د. محمد العريمي

ونحن نجوب أزقة المدينة تملّكني سؤال ظلّ يتردّد في داخلي: ما سرّ هذه المدينة؟ كيف استطاعت أن تنجب مثل هذه الشخصيات؟ هل هو البحر الذي يفتح الأفق؟ أم أنّ في زنجبار روحًا لا تُرى، ولكنها تسكن كلَّ شيء؟ الشيء الوحيد الذي أعلمه أنني قد وقعتُ في غرامها.

قلتُ لسيف ونحن نتأمل تلك الآثار إنه كان للعُمانيين حضور وتواصل مع الثقافات والمجتمعات الخارجية منذ قرون بعيدة؛ لذا نجدهم - كأشخاص أو كدولة - قد وصلوا إلى بقاع الأرض المختلفة، مثل الصين وماليزيا والهند والسند وتركيا وأمريكا وأوروبا وأفريقيا، ومنهم من تبوأ مراكز كبيرة في الأماكن التي وصلوا إليها، نذكر منهم سالم أحمد سالم الريامي أمين عام منظمة الوحدة الأفريقية ورئيس وزراء تنزانيا السابق، والبروفيسور علي بن الأمين المزروعي، والبروفيسور علي الجهضمي الذي كان أكاديميًّا في أمريكا وفي كينيا، والبروفيسور مسلم البوعلي وغيرهم كثيرون.

بعد أن تناولتُ في المقال السابق رحلة السيد حمود إلى مصر والحجاز والشام، فإنّ في كتاب “رحلة أبي الحارث”، للشيخ الأديب محمد بن علي بن خميس البرواني، ثلاثة مواقف تشير إلى الحضور العُماني، وقد صدر الكتاب أول مرة في زنجبار عام 1915م، وأعادت وزارة التراث والثقافة نشره عام 2010، بتقديم حفيده نبهان بن تغلب البرواني، وهو عن رحلة المؤلف التي انطلقت من زنجبار يوم الجمعة 17/4/1914م، بهدف الاطلاع على بلدان العالم الإسلامي، إذ غطت الرحلة مساحة واسعة من المدن الواقعة في المحيط الهندي، إلى جانب زيارته للقاهرة ولبنان وبلاد الشام، واستغرقت ستة أشهر إلا خمسة أيام، وهي الرحلة التي وصفها الباحث الدكتور محمد المحروقي في دراسة تحليلية بأنها رحلة يمكن إيجازها في عبارة “البحث عن أمة واحدة”.

تتلخص المواقف الثلاثة في أنّ الشيخ محمد البرواني عندما وصل إلى بيروت التي وصف رحلته إليها بالتفصيل، مُعدِّدًا الأماكن التي زارها، يتفاجأ بوجود ابن عمه راشد بن محمد البرواني في الفندق نفسه. ويقول “فسُرّ كلُّ واحد منا برؤية أخيه، وأخبرني أنه ورد المدينة منذ أحد عشر يومًا من دمشق”. لا يطيل الشيخ في ذكر تفاصيل هذا اللقاء، ولكن حدوثه في بيروت يدل على أنّ العُمانيين كانوا قد ألفوا الرحلات واعتادوا التواصل مع الآخرين.

أما الموقف الثاني فيحكي فيه الشيخ البرواني في الصفحة 147، أنه بعد زيارة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الخليل، رجع إلى القدس الشريف، وهناك زار بعض المشاهد منها قبر سيدنا سليمان عليه السلام. ويقول إنه وجد على قبر النبيّ سليمان كسوة، “وعليها اسم صاحبة السيرة المَرْضِيّة والهمّة السَنيّة بنت سالم بن سعيد الحارثية، والدة الشيخ سالم بن سلطان الريامي، فإنها لما قدمت إلى القدس الشريف كست القبر بهذه الكسوة، وعملتها على نفقتها الخاصة تقربًا لله”، وهي دلالة كبرى على أنّ العُمانيين تواصلوا مع الآخرين، وتعدى الأمر الرجال إلى النساء.

ويحكي الشيخ البرواني في الموقف الثالث أنه أثناء عودته إلى زنجبار رست السفينة في ميناء جيبوتي، وهناك قابل عُمانيًّا هو الشيخ صالح بن أحمد المسكري الذي أكرم مثواه، وهو يعيش في موضع خارج المدينة يسمى “هنبلي” وقد اتخذ في ذلك الموضع بستانًا غرسه كله بالنخيل التي تُسقى بماء البئر.

زنجبار- أرشيف د. محمد العريمي

تلك كانت ثلاثة مواقف عن التواصل التاريخي بين العُمانيين والآخرين واردةً في كتاب واحد فقط، فماذا لو تحدّثنا عن الذين سافروا إلى الصين والهند والسند وماليزيا وأمريكا وأوروبا، وماذا لو تحدثنا عن العصر الحديث وعن الشخصيات التي من أصول عُمانية، وكان لها الدور الهام في الخارج كسياسيين وأكاديميين وأطباء وغيرهم؟!

في تحليله لرحلة أبي الحارث، والذي أستقي معلومات هذه المقالة منه، يرى د. محمد المحروقي أنّ الشيخ محمد البرواني سعى إلى تقديم أنموذج للحداثة التي على زنجبار أن تسلكها في بحثها عن هويتها، مما يمكن تسميته بـ“الأمة الإسلامية“، أو “الأمة الواحدة”، وهي الهوية التي تشكلت في زنجبار منذ فترة طويلة. ويُعتبر السلطان علي بن حمود البوسعيدي رائدًا في هذا التوجه، إذ أنه سافر إلى الأستانة ومرّ بمصر والحجاز، وكان مشغولًا بفكرة التعريب، وبفكرة إنشاء تجمع إسلامي يضم الدول الإسلامية، ممّا يدل على أنّ العُمانيين لم يكونوا منعزلين، وأنهم كانوا منفتحين على الثقافات والديانات الأخرى، ولم يعرفْ التعصبُ الطريقَ إليهم قَط، وكانوا دائمًا متصفين بالتسامح، وعلى هذا فإنّ الشيخ محمد البرواني - شأنه شأن أقرانه من العُمانيين - لمس بشكل غير مباشر سؤالًا من أهم أسئلة النهضة العربية الحديثة المتصلة بالموقف من الغرب؛ فشخصيتُه اتسمت بالمرونة والانفتاح على الآخر، ممّا انعكس على موقفه من الغرب، ذلك الموقف الذي يقضي بالاستفادة من منجزات الغرب دون التخلي عن القيم الإسلامية ودون الابتعاد عن روح الإسلام؛ ومن هنا أصر على تعلّم اللغة الإنجليزية وهو في الخمسين من عُمره.

هناك عوامل ساعدت العُمانيين على التواصل مع الآخرين، منها إنشاء “المطبعة السلطانية” في عهد السلطان برغش بن سعيد، إذ قاد إلى نشاط صحفي وإلى ظهور أول صحيفة عربية عُمانية في زنجبار، سميت بصحيفة “النجاح”، وذلك في عام 1911م، ثم تبعتها صحف أخرى كـ“الفلق” و“النهضة” وغيرها. وقد سار السلطان حمود بن محمد البوسعيدي على الخطى نفسها في تشجيع حركة الطباعة والصحافة، وبنى هذا السلطان علاقات جيدة مع رواد حركة الإصلاح العربي، أمثال محمد رشيد رضا وجرجي زيدان، ممّا أدى إلى توطيد العلاقة الثقافية بين العُمانيين وهؤلاء؛ فازدهر التفاعل الإيجابي بين رواد الصحافة العربية الأوائل في القاهرة وبيروت والأستانة والإسكندرية وباريس ولندن من جهة، وبين السلطانَيْن: حمود بن محمد، وابنه علي بن حمود من جهة أخرى، حيث يحتفظ أرشيف زنجبار بالكثير من المراسلات التي كانت تجري بين أولئك الرواد وهذين السلطانَين، رغم أنّ الكثير من هذه المراسلات قد اختفى بعد الانقلاب في زنجبار عام 1964.

لقد دعم سلاطين زنجبار الصحافة العربية في الوطن العربي منذ نشأتها، كما هي الحال في صحيفتَيْ “المنار”، و“الهلال” التي تصدر حتى الآن. وتكشف إحدى الوثائق رسالة من محمد رشيد رضا إلى سلطان زنجبار، بتاريخ 5/10/1901م، يعرّف فيها السلطان برسالة صحيفة “المنار” التي أسسها عام 1998، ويطلب فيها الدعم المادي، وتكشف وثيقة أخرى رسالة ثانية من صاحب “المنار” لسلطان زنجبار يُعرّفه فيها بمشروع جديد له؛ هو تأسيس جمعية “العلم والإرشاد” بالأستانة ويطلب فيها دعم السلطان أيضًا.

وإذن؛ نلمس من هذه المراسلات، وقبلها من كتب الرحلات التي ألفها عمانيون، حضورًا عمانيًّا بارزًا في أصقاع الدنيا، وتفاعلًا إنسانيًّا مع الجميع.

مصدر الصور: أرشيف د.محمد العريمي

Your Page Title