الأولى

77 عامًا من الخلاف: ما قصة الصراع بين يهود الحريديم وحكومة الاحتلال؟

مظاهرات واحتجاجات لليهود الحريديم

رصد – أثير

إعداد - ريما الشيخ

تشهد إسرائيل في هذه الأيام مظاهرات ضخمة يقودها اليهود الحريديم الذين نزلوا إلى الشوارع للتعبير عن رفضهم لقرارات تجنيدهم الإلزامي في الجيش الإسرائيلي، حيث يتجدد الصراع القديم بين هذه الطائفة الدينية المتشددة ومؤسسات الدولة، وهو صراع يعود تاريخه إلى عام 1948 وما زال يثير جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية والاجتماعية حتى اليوم

من هم الحريديم؟

الحريديم هم اليهود الأرثوذكس المتشددون الذين يُعرفون بالعبرية بـ “الخائفين من الله”، ويشكلون نحو 13% من سكان إسرائيل أي ما يقارب مليونًا وثلاثمائة ألف نسمة، ويعيشون غالبًا في مجتمعات مغلقة تتميز بالانعزال عن باقي الإسرائيليين، حيث يلتزمون بملابس تقليدية مثل القبعات السوداء والسترات الطويلة، ويقضون معظم وقتهم في دراسة التوراة داخل المدارس الدينية المعروفة باسم “اليشيفوت”، ويتميز هذا المجتمع بمعدلات ولادة مرتفعة تصل إلى أكثر من ضعف المعدل العام، وهو ما يجعل التوقعات الديموغرافية تشير إلى أنهم سيشكلون ما يقارب خمس السكان خلال العقدين المقبلين، مما يمنحهم ثقلًا متزايدًا في الحياة السياسية والاجتماعية

جذور الخلاف مع الدولة

منذ تأسيس إسرائيل مُنح طلاب الحريديم إعفاء من الخدمة العسكرية الإلزامية، وذلك وفق مبدأ “توراتو أمانوتو” أي أن التفرغ لدراسة التوراة يُعتبر خدمة وطنية بحد ذاته، وكان هذا الاتفاق في بدايته يخص أعدادًا محدودة من الطلاب، لكن مع مرور الزمن ارتفعت أعداد المستفيدين بشكل كبير حتى بات معظم شباب الحريديم في سن التجنيد خارج المؤسسة العسكرية، الأمر الذي أثار استياء فئات واسعة من المجتمع العلماني والطبقات الوسطى التي تؤدي الخدمة الإلزامية وتتحمل تبعاتها

قرار المحكمة العليا وتأجيج الغضب

في عام 2024 أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قرارًا يقضي بإلغاء الإعفاءات الممنوحة للحريديم واعتبارها غير قانونية ومخالفة لمبدأ المساواة، وألزم القرار الحكومة بفرض التجنيد على الجميع، ومع بداية عام 2025 بدأت المؤسسة العسكرية في إرسال آلاف الاستدعاءات لشباب الحريديم، وهو ما فجّر موجة غضب واسعة داخل مجتمعهم وتحولت إلى مظاهرات ضخمة في القدس وبني براك ومدن أخرى، حيث يرفع المحتجون شعارات ترفض ما وصفوه بمحاولة “تدمير أسلوب حياتهم الديني” القائم على العزلة والدراسة

ارتدادات سياسية خطيرة

القضية لم تبقَ محصورة في الشارع بل هزت أركان السياسة الإسرائيلية، فالأحزاب الحريدية تمثل شريكًا رئيسيًا في ائتلاف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وقد هددت هذه الأحزاب بالانسحاب من الحكومة إذا لم يتم التوصل إلى تسوية تضمن استمرار الإعفاء أو إيجاد بدائل مقبولة، ما وضع الائتلاف الحاكم أمام أزمة حقيقية قد تدفع نحو انتخابات جديدة في حال تفكك التحالف، وأكدت تقارير إعلامية أن استقرار الحكومة أصبح على المحك وأن قضية تجنيد الحريديم قد تكون القشة التي تهدد استمرارها

البُعد الاقتصادي والتعليمي

تثير الطائفة الحريدية جدلًا كبيرًا أيضًا بسبب أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، إذ أن نسب المشاركة في سوق العمل بين رجال الحريديم متدنية للغاية بسبب تفرغهم للدراسة الدينية، بينما تتحمل النساء مسؤولية إعالة الأسرة غالبًا من خلال وظائف بسيطة محدودة الدخل، ما يؤدي إلى ارتفاع نسب الفقر بشكل واضح داخل هذا المجتمع، وتعتمد آلاف الأسر الحريدية على المخصصات الحكومية بشكل شبه كامل، وهو ما يثير استياء شرائح أخرى من المجتمع ترى أن الدولة تتحمل عبئًا ثقيلًا لدعم جماعة ترفض الانخراط في سوق العمل، أما في مجال التعليم، فإن مدارس الحريديم تركز على العلوم الدينية وتُهمل إلى حد كبير المواد الأساسية مثل الرياضيات واللغات والعلوم الحديثة، مما يجعل أجيالًا كاملة غير مؤهلة للانضمام إلى سوق العمل الحديث ويزيد من الفجوة بينهم وبين باقي المجتمع الإسرائيلي

محاولات للدمج والتسوية

في مواجهة هذا المأزق، حاولت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إيجاد حلول وسط، حيث أنشئ الجيش كتيبة “نِتساح يهودا” عام 1999 لاستيعاب الجنود الحريديم في بيئة تراعي طقوسهم الدينية، كما أُعلن في 2024 عن تأسيس لواء “الحشمونائيم” بهدف دمج المزيد من الحريديم ضمن وحدات عسكرية تحافظ على خصوصيتهم الدينية، إلى جانب برامج بديلة تسمح بالتجنيد بعد سن 26 مع توفير تدريبات أقل صرامة، غير أن هذه المحاولات ما زالت تلقى معارضة كبيرة داخل المجتمع الحريدي الذي يرى أن أي شكل من الخدمة العسكرية يمثل تهديدًا مباشرًا لهويته ونمط حياته

ردود فعل المجتمع العلماني والإعلام

المجتمع الإسرائيلي العلماني بدوره عبّر عن غضب متزايد تجاه رفض الحريديم للتجنيد، حيث يرى كثيرون أن هذه الطائفة تستفيد من أموال الدولة دون أن تتحمل واجباتها، واعتبرت مقالات في الصحف العبرية أن استمرار الوضع الحالي يهدد وحدة المجتمع الإسرائيلي ويكرس انقسامًا خطيرًا بين المتدينين والعلمانيين، كما ركزت التغطيات الإعلامية على صور الاحتجاجات وقطع الطرقات في المدن الكبرى، مؤكدة أن الحكومات المتعاقبة فشلت في فرض قانون متساوٍ للجميع، وأشارت تقارير أخرى إلى أن الاستياء الشعبي لا يقتصر على الجيش، بل يمتد إلى قضايا التعليم والاقتصاد، حيث يطالب كثيرون بدمج مدارس الحريديم في النظام التعليمي العام وإلزامها بتدريس المناهج الأساسية حتى يكون الشباب الحريدي جزءًا من سوق العمل بدلًا من الاعتماد على المخصصات الحكومية

مستقبل الصراع

يتضح أن قضية تجنيد الحريديم ليست مجرد خلاف إداري أو قانوني، بل هي صراع أعمق يعكس التوتر بين هوية دينية متشددة تسعى للحفاظ على انعزالها وبين دولة تحاول فرض المساواة والاندماج، ومع استمرار المظاهرات وتهديد الأحزاب الدينية بالانسحاب من الحكومة وتزايد الاستياء الشعبي، يظل المشهد الإسرائيلي مفتوحًا على جميع الاحتمالات، سواء بتقديم تنازلات جديدة للحريديم أو بالدفع نحو مواجهة سياسية قد تعيد رسم الخريطة الداخلية لإسرائيل في السنوات المقبلة

المصادر

مصادري التي اعتمدت عليها في صياغة الخبر:

* Al Jazeera

* Reuters

* Le Monde

* The Week

* Time

* Britannica

* My Jewish Learning

* Council on Foreign Relations (CFR)

* MERIP

مصدر صورة الموضوع: الجزيرة نت

Your Page Title