محمد حسن - كاتب وباحث سوري
أول ما يتبادر إلى الذهن مصطلح العنف المقدس، فإنه يُخيَّلُ إلينا رأساً القتل باسم الدين وهذا قطعاً صحيح، توضحه الممارسة التاريخية لمجموعات بشرية ما تزال قابعة في قاع الأيدولوجيات وفي قاع الأزمنة، لكن الجديد اليوم هو محاولة تظهيرها على طريقة لصوص ما بعد منتصف الليل، كخاطفة للجغرافيا في منطقة على خط الصدع من هذا العالم المضطرب، والحاكمة بأمرها على رقاب الناس ومصائرها قتلاً وترويعاً وإبادة جسدية ومعنوية. فالعنف الديني ليس مجرد حدث عشوائي بل هو ظاهرة متجذرة في النصوص القديمة تمتد آثارها بطبيعة الحال إلى ظهيرة أيامنا وصباحاتنا الرمادية، حيث تكشف عن قابلية تطويع النصوص الدينية لأن تتحول إلى أدوات للعنف والهيمنة لتبرير القتل والسيطرة السياسية والاجتماعية.
وهو ما يظهر جلياً في العهد القديم حيث ورد في سفر صموئيل الأول أمراً إلهياً لشاؤول الملك: “اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ما لهم، ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً “. إنَّ مثل هذه النصوص تعكس ثقافة الحروب القبلية في الشرق الأدنى القديم، حيث كان “التحريم” أي الإبادة الكاملة وسيلة لحماية النفس وبناء هوية جماعية. لكن الخطير في الأمر أن هذه النصوص لم تبقَ حبيسة كتب التاريخ، فقد خرجت تلك النصوص عن كونها مجرد سجل تاريخي وتمت إعادة توظيفها وتفسيرها في سياقات سياسية ودينية متعددة لتبرير الحروب الصليبية ونزعات التطهير العرقي وتعزيز السلطات السياسية وصولاً إلى القس الأميركي جون هاغي الذي دعا إلى حرب كبرى باسم المسيح التوراتي تقف فيها البشرية كما تقف الملائكة إلى جانب نتنياهو، مكرساً صورة الماشيح التوراتي الراقص على جماجمنا نحن العرب. انتقل ذلك الإله الذي يرمي من داخل كهفه السابلة بالحجارة إلى رمي المدنيين والأبرياء بالقنابل والطائرات. وهذا الامتداد والتحور الخطير كغيره يستند إلى تأويلات حرفية لنصوص دينية مثل تلك الواردة في سِفر التثنية: “كُلُّ مكانٍ تدُوسهُ بُطونُ أقدامِكُم يكون لكم. مِنَ البريَّةِ ولبنان. مِنَ النَّهْر، نهر الْفُرات، إلى البحْرِ الغَرْبِي يَكُونُ تُخْمُكُم”. هذه التأويلات لا تقتصر على دائرة المتدينين المتطرفين، بل تمتد إلى الإعلام المؤثر، كما في حالة الإعلامي اليميني يانون ماجال حيث صرح “إننا مقبلون على أيام عظيمة حقّاً، ووحده المسيح هو من يمكن أن يحل محل نتنياهو”. هذا التكييف يكشف عن تداخل خطير بين الخطاب الديني والمشروع السياسي، حيث يتم توظيف الرموز الدينية لخدمة أغراض سياسية واستعمارية، مما يحول الدين من رسالة سماوية يجب أن تدعو إلى السلام والعدل إلى أيديولوجيا عنفية تُستَخدم لتبرير الاحتلال والتطهير العرقي.
وفي التراث الإسلامي نجد نمطاً مشابهاً، حيث استخدمت نصوص الجهاد لتبرير القتل ضد “المرتدين” و “الكفار”، كما في حالة ابن تيمية، مُستنداً إلى آيات وأحاديث تم تفسيرها تفسيراً حرفياً ضيقاً حول القتال والسبي، الأمر الذي سمح بإضفاء شرعية دينية على ممارسات عنيفة كالقتل والسبي والاغتصاب في سياقات تاريخية معنية.
هذا الاستخدام للنصوص يعيد إنتاج نفسه اليوم في ممارسات الجماعات المتطرفة التي تقتطع النصوص من سياقاتها لتبرير القتل الطائفي واستئصال الخصوم السياسيين في سورية والعراق وغيرهما. وهنا تكمن الخطورة الحقيقية: تحويل النص الديني إلى سلاح لفرض أيديولوجيا ضيقة، وتعزيز الهوية الجماعية عبر العنف، مع استخدام الإعلام والتكنولوجيا لتضخيم تأثير هذه النصوص وخلق عدو وهمي يجب إبادته. وهذا ما يكشف إمكانية تحويل تلك الرمزية وتفريخها إلى أدوات لتثبيت السلطة وإنتاج العنف. لقد أشارت نصوص العنف المقدس في تلك الثقافات المختلفة إلى أن “القتل يصبح عبادة” في خيال بعض الجماعات، فالقتل باسم الإله يتحول إلى ممارسة مقدسة، وما يفعله الإرهابي المعاصر ليس جديداً على التاريخ بل إعادة إنتاج رمزي لتلك النصوص، حيث يُنظر إلى الدماء على أنها وسيلة لإثبات القداسة والسلطة والهوية.
لكن العنف لا تحكمه النصوص وحدها بل الأيديولوجيا المجنونة التي تلتهم النصوص لتجعلها سيفاً مسلطاً على البشر. هنا نرى جماعات تدّعي أنها تنفذ النص الإلهي، تقدم القرابين البشرية لذلك “الإله” الذي تحوّل عند بعض الفقهاء من إله رحمة وعدالة إلى وثن ينفث النار حيثما يحل، فيما تكدّست جثث الأبرياء تحت الأنقاض أو في العراء. بهذا المعنى، العنف المقدس ليس سوى قناع أيديولوجي، يُخفي وراءه صراع السلطة والنفوذ، ويستغل النصوص لإضفاء قداسة على المجازر.
هكذا يتجلى الشرق الأوسط اليوم بوصفه مسرحاً لهذا العنف المقدس. المنطقة التي وصفها الأميركي وليم كريستول بـ “منطقة الوثنيات الكبرى” حيث تحولت الديانات السماوية برأيه إلى أيديولوجيات متصلبة. تُقدَّم في المخيلة الغربية كأرض ما تزال عالقة في بدائية الغزو القبلي، وكأنها فضاء بلا زمن ولا ثقافة. الأميركيون لم ينظروا إليها يوماً كدول قابلة للتطور بل كمضارب قبلية عالقة في الجزء المظلم من التاريخ. من مبدأ أيزنهاور عام 1957 إلى ترامب الذي قدّم نفسه كإمبراطور، ظلّت المنطقة في نظر البيت الأبيض وعواصم الغرب فراغاً جغرافياً خارج الزمن يُحشا بالسراب، ويتقيأ الكوابيس، بينما إسرائيل وحدها تُقدَّم كدولة حديثة تمزج بفظاظة عجيبة بين الأيديولوجيا العمياء والتكنولوجيا التي تتحكم بها لوثة إسبارطية لا تجد ضالتها إلا في القتل والتدمير.
إزاء هذا الواقع الجحيمي يبرز دور الفكر النقدي العربي في فضح الاستخدام الحرفي للنصوص وكشف أبعاده السياسية والاجتماعية، حيث مثّل ابن رشد لحظة مفصلية في وضع العقل الفلسفي في قلب التجربة الدينية التقليدية، وقدم أدونيس في مشروعه الفكري الثابت والمتحول أدوات منهجية لتحرير التراث من أسره التاريخي إذ حاول كسر هذه البنية السكونية عبر فضح هيمنة “الثابت” في الثقافة العربية الإسلامية، أي ذلك الجانب الذي اختزل الدين في أحكام جامدة، وجعل النصوص أدوات لضبط الوعي والسيطرة على الجماعة. فالثابت، كما يراه أدونيس، هو ما رسّخ الجمود وحوّل التراث إلى حصن مغلق يتكرر داخله العنف نفسه جيلاً بعد جيل.
في المقابل، استخرج أدونيس من أعماق التجربة العربية وجوهاً أخرى سماها “المتحوّل”: تيارات التصوف التي جعلت من الدين تجربة وجدانية إنسانية، والفلسفة العقلية التي استحضرت العقل معياراً للحقيقة، والشعر الذي ظل فضاءً للحرية والتجديد. هذا المتحوّل، بالنسبة إليه، يمثل الطاقة الكامنة التي يمكن أن تحرر الإنسان العربي من أسر الماضي وتضعه في قلب الحاضر.
إن نقد التراث لا يهدف إلى قطيعة مع التراث، بل إلى إعادة قراءته تاريخياً ونقدياً بحيث نفصل بين ما هو إنساني عابر يمكن أن يغني الحاضر، وما هو تاريخي ظرفي يجب تجاوزه. بهذه الرؤية يمكن أن نفتح باباً للعرب نحو الحضارة، لا باعتبارها استلاباً للغرب، بل باعتبارها مشاركة فاعلة في إنتاج المعنى والحرية.
من هنا، فإن دعوة أدونيس إلى تحرير “المتحوّل” ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة وجودية في مواجهة العنف المقدس الذي يستند دائماً إلى “الثابت” بوصفه حقيقة نهائية لا جدال فيها. فإذا بقي التراث في قبضة الثابت، فلن نخرج من دائرة الدم. أما إذا أُعيد الاعتبار للمتحوّل، فإن النصوص تتحول من أدوات قتل إلى فضاءات حياة، ويتحول الدين من سلطة على الإنسان إلى تجربة تُحرره وتضعه في قلب التاريخ.
إنّ الدين والأدب والثقافة أدوات يجب قراءتها بوعي نقدي لا حرفي، فالتراث الذي لا نقد له يتحول إلى عبودية، ما يشدد على تجاوز التفسير الحرفي للنصوص الدينية وإدراك تأثيرها في إنتاج العنف الاجتماعي والسياسي، وقد أشار مفكرون عرب آخرون إلى ضرورة إعادة قراءة النصوص تاريخياًونقدياً، مثل محمد أركون الذي دعى إلى فتح صندوق ما سماه “اللامُفكر فيه” في التراث الإسلامي، أي تلك المناطق التي جرى تحصينها ضد السؤال والنقد. أركون أراد أن يُخضع النصوص لمناهج العلوم الإنسانية الحديثة: الأنثروبولوجيا، التاريخ المقارن، اللسانيات. ونصر حامد أبو زيد الذي رأى أن النصوص دلالية وثقافية وأن أي قراءة حرفية لها تؤدي إلى تعطيل العقل والحقوق الإنسانية، بينما شدد جورج قرم على البعد السياسي ـ الاقتصادي لتفجر العنف الديني، فبحسب رأيه أن العنف الديني في العالم المعاصر غالباً ما يكون أداة سياسية، وأن الوعي النقدي هو السبيل لتفكيك وظيفته في تبرير القتل والسيطرة.
مواجهة العنف الديني اليوم تتطلب نهجاً متعدد المستويات يبدأ من التعليم النقدي للنصوص من أجل كشف سياقها التاريخي والاجتماعي وتفكيك القراءة الحرفية التي تولد العنف، وكشف من يتلاعب بالنص المقدس ويوظفه لمصالح بعيدة عن أية قداسة وهذابمثابة جُرح للنص. وتتطلب المواجهة أيضاً إبراز القيم الإنسانية العليا كالعدالة والحرية وكرامة الإنسان باعتبارها مرجعية تتجاوز أي نص يُوظف لتبرير القتل. كما يتطلب الأمر فصل الدين عن السلطة السياسية حتى لا يستخدم كغطاء للعنف والسيطرة، مع تطوير خطاب ديني معاصر يشجع على الاجتهاد العقلاني والحوار بين المذاهب للتقليل من التوتر الطائفي. وإلى جانب ذلك لا بد من دعم المقاربة القانونية الدولية لمكافحة الإرهاب والقتل باسم الدين دون استهداف الدين ذاته، بحيث يجري التعامل مع العنف بوصفه تهديداً سياسياً واجتماعياًأكثر من كونه التزاماً دينياً.
إن العنف المقدس ليس جوهر الدين، بل هو انعكاس لتفاعل النصوص مع ظروف سياسية واجتماعية محددة. وما لم تُقرأ النصوص في سياقها التاريخي، وما لم يُفصل الدين عن السلطة، فإن العنف سيظل يعاد إنتاجه في صور مختلفة. غير أن الإرث الفكري النقدي الممتد من ابن رشد إلى أدونيس وأركون وأبو زيد وقرم وغيرهم يمنحنا الأدوات الكفيلة بتحويل الدين إلى فضاء للرحمة والعدل والحياة المشتركة، بدلاً من أن يكون غطاءً للقتل والهيمنة. وبالوعي النقدي وحده يمكن تجاوز العنف المقدس وبناء مجتمع تحرري عقلاني يعلي من قيمة الإنسان فوق كل نص أو تأويل حرفي.