فضاءات

في سمائل: مدينة ضائعة تبحث عن اكتشاف واستثمار

ساقية فلج في موقع البساتين

مسقط-أثير

إعداد: هلال بن عامر بن علي القاسمي

تُخفي الأرض العُمانية أسرارًا غامضة، أسرارًا مخفيةً بين الفجاج العميقة، والجبال الشامخة، والصحاري الرملية، فمثلًا: كل من يسلك الطريق من مسقط إلى نزوى لن تخطئ عينه ملاحظة الغموض الذي يختفي في أعماق الأخاديد الجبلية العميقة، وسرعان ما تنبثق الأسئلة ماذا يا ترى بداخل تلك الفجاج والأخاديد المظلمة؟

تنكشف لنا في هذا المقال قرية ذات صبغة مَدَنيةٍ أو حضارية فريدة قابعة بين الجبال، تتميز بمعالم نموذجية؛ قد تكون كنزًا عند الآخرين الذين يحبون كشف الغموض، وكنزًا ثمينًا عند علماء الآثار، وهي ثروة حية تحكي للزائرين زمنًا مضى بحيويته ونشاطه أدى إلى ظهور هذه القرية التي تُعرف محليًا باسم “قرية البَسَاتِين” الواقعة في ولاية سمائل، وفي اللهجة الدارجة يُمال حرف المد وتنطق “البِسَيْتِين”، وإنني لا أبالغ عندما أصفها بالمدينة الضائعة، فمن يزورها يعرف مدى الحاجة لكشف أسرارها، فثمَّة مبنًى في ربوة جبلية تقع على ارتفاع 6 أمتار تقريبًا عن سطح الأرض المحيطة، وهو عبارة عن حصن القرية الدائري المعقد البناء، بقيت جدرانه المبنية من الحجر المحلي بمساحة قدَّرتُها بحوالي 2300مترٍ مربَّع، وله سور متصل يحيط بالقرية وقد بقيت أطلال السور وآثار أساساته، وهذا هو مرتكز الغموض الأول، أما المختصُّون وعلماء الآثار سيندهشون -بالتأكيد- من معالم هذا الموقع الأثريِّ، وسوف يجذبهم التلُّ الواقع على حافَّة الوادي، ذلك التلُّ قد يكون يخفي سجلًا تاريخيًا، بل كل مساحة القرية تخفي مفاجآت قد تغير الفهم المطروح عن العصر الحديدي أو على الأقل تضيف إليه حلقات ذهبية تعزز من عراقة عُمان وتحرِّك سكون السياحة في ولاية سمائل.

تعدُّ المياه الأساس الذي تقوم عليه الحضارات، وتُبنى عنده القرى والمدن، ومدينتنا هذه كان مصدر المياه فيها صناعة بشرية بحتة، صناعة تحدَّت أقسى ظروف الحياة، بأيدٍ ابتكرت شريان الحياة بالعزيمة والحكمة والتفوُّق الفكري، تمثله سواقي فَلَجَيْن (مُثنَّى فلج) مُدّ إحداهما في مسافة تصل إلى 4 كيلومترات، لتحمل المياه إلى أرض خصبة زُرِعَت فيها بساتين الأشجار والحقول، وأنتجت الغذاء، هذان الفَلَجَان هما لوحدهما رمز للإبداع، فالأول منهما يحتوي على بُعْدٍ بصري خلّاب، يُثير العقول تساؤلًا، والثاني على هندسة متقدمة تظهر أنها في العصر الحديدي وهذا أحد ميزات الابتكار المبكر.

تقسيم المناطق الأثرية في القرية للدراسة

أظهرت آثار العمارة في هذه القرية صورة لم يبقَ منها سوى ذلك الحصن وبعض البيوت التي عبثت بها أيادٍ لا تعرف قيمتها، ولا تفهم معنى وجود قرية ذات أبعاد حضارية مرت عليها 2400عام كأقل تقدير، تشتمل على أنماط متقدمة التقنية وعميقة التكوين، بَيدَ أن تلًا يقع في حافة الوادي قد يكون يومًا من الأيام مع مفردات القرية -إذا حظيَ باهتمام الجهة المعنية- اكتشاف يهز علم الآثار ويرفد الاقتصاد الوطني، ويرجع لها الحس البشري القديم؛ الذي تكشفه لنا الصور الجوية من كثافة آثار ممشى الأقدام التي تؤدي إليها من عدة جهات.

ثمَّة ما هو أعمق من ذلك تأثيرًا وجذبًا وغموضًا، وهي تلك النقوش التي كُتبت في الصخور بهذه القرية، للأسف بعضها فقدناه بسبب الإنشاءات الحديثة، وهي تحتوي على نقوش كتابية للأبجدية العربية القديمة، إنها رسائل من الماضي كتبها لنا أولئك الذين عاشوا في الألف الأول قبل الميلاد ليحدثونا عن أسمائهم أو حياتهم أو ما أرادوا أن يقولوه لنا، كما يأخذنا التقسيم المتطور في القرية بين مناطق السكن والسوق، والزراعة والريّ، والإدارة والتحصين، والصناعة والحِرَف، إلى ذلك العالم الذي يفصلنا عنه ضباب الزمن، فعندما كنت أكتب كتاب “العبقرية في جزيرة العرب” تعمقت كثيرًا في نُظُم الرَّيِّ بهذه القرية وكانت النتائج مثيرة، ويمكن العودة إلى كتاب “البحث عن الأسلاف في الأخدود العظيم” للاستزادة والتوضيح.

قمت باستقصاء خبر هذه القرية منذ عام 2010م من الطبيعة والكتب ومن العارفين، ولم أجد لها خبرًا يكشف كل أسرارها، والأغلبية لا يعرفونها، ومن يعرفها فإنه لا يستطيع تحديد أي شيء عنها إلا خبر تدميرها في فيضان، وادعاءات مختلفة تناقض واقعَها الأثري، وقد غابت عن الجميع بسبب قِدم وجودها، إلا أن الخبر الذي يعدّه الناس هو الأكيد خرابها في فيضان مدمِّر، وبعد البحث عن حقيقة الفيضان وجدت حادثة أرَّخها الإمام نور الدين السالمي في كتابه “تحفة الأعيان” عن فيضان مُدمِّر بعام 252هـ، وأدى إلى تدمير معظم قرى ومدن وادي سَمَائِل، وهذه القرية قد دمرها ذلك الفيضان في فترة حكم الإمام الصلت بن مالك الخروصي في القرن الثالث الهجري، وعلم الآثار يؤكد لنا أن هذه القرية قد دُمرت في نهاية العصر الحديدي أو العصر الإسلامي المبكر.

تبلغ مساحة القرية حوالي 50 هكتارًا، تغطيها البساتين ويتوسطها تلُّ الحصن، وفي الجهة الشرقية منها تقع المنطقة السكنية مع وجود آثار أنشطة صناعية، مثل: صناعة المعادن وطحن الحبوب وإنتاج الزيت وصناعة الصاروج، كان في الجانب الشرقي لتلِّ الحصن غُرَفٌ ذات صَفَّين متقابلين مع وجود آثار كثيرة لأنشطة بشرية استدلَلْتُ عليها بكمية الصخور المشذبة والمصقولة وقطع المعادن المتكسرة، يشبه الموقع معمل أو سوق، وقد رجحت أنه سوق القرية، كما يمتد عليه السور يحيط به إلى الجهة الشرقية عند مجرى وادٍ صغير، وفي الجهة الجنوبية المقابلة تقع نتوءات صخرية عند الاقتراب منها يتبين أنها مقابر فترة حفيت المؤرخة في العصر البرونزي المبكر بعمر يصل إلى 5200 عام، بَيدَ أن معظم معالم مدينة البَسَاتِين اختفت بسبب التعديات الحديثة التي أمست تطالها باستمرار.

تعاني هذه المدينة على ضخامة مكوِّناتها العبث المستمر، ومنذ أعوام طويلة وأنا أسعى إلى إقناع الجهة المعنية بضرورة حفظها ودراستها، فإن كثيرًا من الناس أخذوا يقيمون فيها ما يسمى “العزب” أي حظائر تربية الحيوانات ويخربون الآثار، فكم عاينَّا عمالًا يقومون بتدمير الجدران والأساسات لبناء السياج للحظائر، كما أن الآثار السطحية المنقولة اختفت، منها ما تم رميها في الوادي على ضوء تنظيف المكان وتهيئته لإقامة مرفقات العزبة، ناهيك عن آثار الدوائر الحجرية ذات الأهمية والدلالات المختلفة، وهي عبارة عن صخور مصفوفة عموديًا على شكل حلقة دائرية كبيرة تم تدميرها وطمسها، بعض القبور تعرضت إلى التخريب، حيث إن القرية تضم عددًا كبيرًا من القبور الأثرية التي تنتمي إلى فترة سمد الشأن، وبعضها إلى فترة لزق اللتان ترجعان إلى العصر الحديدي، وهما من أبرز الشواهد الأثرية ذات الثراء في المحتويات والأدوات، وهنا نوع من المدافن عبارة عن أكوام ترابية على شكل تلال تقع في الجهة الشمالية المحاذية للمنطقة الزراعية وهي من أهم المدافن أو القبور؛ لِمَا تحتوي من أدوات، أما السواقي والتي تتميز بتشكيلات فائقة الجمال، فقد تم تخريب الكثير منها لمسار السيارات، وفي القطاع الأعلى من أحد الفلجَين بُنِيَت منطقة صناعية أدَّت إلى قطع معالم الفلج ومساره، الجميل أن هذا الفلج به تقنية هندسية أو إنشائية ذات ميزة متقدمة ومازالت موجودة حتى الآن وقريبًا ستزحف عليه المنطقة الصناعية أو الحيازات غير القانونية.

إنني أتطلع إلى النظر لهذه القرية باعتبارها ثروة وطنية، تمثِّل نموذجًا حيًّا من قرى العصر الحديدي، وهي نافذة لفهم الحياة في ذلك العصر، وإخراج سماتها التقنيَّة المتطورة التي تعطي صورة عن مدى براعة الإنسان العُماني في وقت مبكر من العصور التاريخية، إنها تحتاج لبعض الحفريات العلمية للتنقيب عن المكونات، وإظهار معالمها ودراستها، لاسيَّما تأهيلها للسياحة فهي كنز يحتوي على بُعدٍ حضاري نادر وبُعد طبيعي، وإن إنقاذ هذه القرية الغامضة هو مسؤولية مجتمعية عامة، قبل أن تكون مسؤولية الجهة المعنيَّة التي قد استنزفت طاقتها الأعمال في مساحة عُمان المزدحمة بالمواقع الأثرية، والتي ما تزال بكرًا ولم تُقدَّم للدراسة؛ ناهيك عن تقديمها للاستثمار، وإنَّ كل مختص في علم الآثار والتراث ما زار هذه القرية إلا واندهش ممَّا فيها، لكنَّ إهمالها كما هي عليه اليوم سوف يؤدِّي إلى فقدانها، فقدان مندوس مغلق بالذهب والفضة.

Your Page Title