الأولى

كيف تطور اقتصاد ظفار بين الحقول والمرافئ؟ وثائق بريطانية تكشف التفاصيل

التطور الاقتصادي-ظفار

أثير – جميلة العبرية

استعرضت الباحثة نجلاء بنت خلفان المانعية معلمة الدراسات الاجتماعية ورقتها المعنونة «التطور الاقتصادي في ظفار (1906–1950م): دراسة تحليلية من خلال الوثائق البريطانية في مجالات الزراعة والصناعة والثروات الطبيعية»، في ندوة ظفار في ذاكرة التاريخ، التي نظمتها هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية.

وترى المانعية أن القرن الحادي والعشرين شكّل بدوره مرحلة انتقالية من حيث تعمّق الاهتمام بالتوثيق والوصف العلمي للمناطق المكتشفة جغرافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وهو ما يتيح إعادة قراءة مواد الحقبة 1906–1950م بعيونٍ منهجية مستجدّة.

وأضافت: اعتمدت الدراسة على السجلات البريطانية التي تناولت سلطنة عُمان، إلى جانب المخزون الوثائقي في مكتبة قطر الرقمية وأرشيف الخليج العربي وكتب الرحالة، وهذا التعدّد في المصادر، أتاح مقارنة الروايات المكتوبة بالصور والخرائط والبيانات التحليلية، وربط الملاحظة الميدانية بالتدوين الإداري والتجاري.

محطات: هارتلي والسير سِريل

أردفت: يُعد التقرير الذي أعدّه هارتلي مسحًا ميدانيًا لافتًا؛ إذ أحصى أنواع المحاصيل وشرح إمكانات الري المحلية ( العيون والآبار والأخوار)، وأرفق صورًا تُظهر أحواضًا مائية وسواقي صغيرة قرب بساتين الزيتون؛ بما يدلّ بوضوح على ارتباط الإنتاج الزراعي بمواقع الإمداد المائي، وعلى الضفة الأخرى من الثروات، أوضح تقرير السير سِريل وجود مجموعة من المعادن قام بتحليلها كيميائيًا، وأرفق خرائط ورسومات تُحدّد أماكن تلك المعادن، ما وفّر مرجعًا مبكرًا لجيولوجيا ظفار الاقتصادية.

محاصيل مرتبطة بالماء

وأشارت المانعية إلى أن الوثائق تحدد المحاصيل الأكثر انتشارًا بوضوح مثل: التمر، والحبوب المحلية، والدُّخن، والذرة الهندية، والحنطة، والبرسيم. وتؤكد أن الإمداد المائي كان محدِّدًا حاسمًا؛ فحين تستطيع القرى والتجمعات الوصول إلى الآبار أو العيون يظهر فائض في الإنتاج، حيث تعيد صور هارتلي وملاحظاته رسم خريطةٍ دقيقة لتداخل الماء مع الأرض والزراعة، من حوافّ الأخوار الساحلية إلى مدرجات السفوح.

الصناعة

بينت أيضًأ أن الوثائق تبرز صناعاتٍ مرتبطة بالموارد أكثر من كونها تصنيعًا ثقيلاً، فـأسماك السردين تُجفّف وتُستخدم علفًا للحيوانات، ويُستخرج منها زيت السمك لتثبيت حبال جوز الهند المستخدمة في صناعة السفن. وعلى اليابسة، وتبرز صناعة «الغي» (السمن) المُستخرج من الثروة الحيوانية بوصفه منتجًا غذائيًا واقتصاديًا ومخزونًا قابلاً للنقل والتبادل.

الثروات الطبيعية والطاقة

من جهة أخرى، أوضحت المانعية أن التقارير كشفت ملاحظات جيولوجية عن مؤشرات سطحية لوجود المعادن، وتحدّثت عن جهودٍ مبكرة للبحث والتنقيب عن النفط، غير أن الواقع الميداني واجه صعوبات حدّت من وتيرة الاستكشاف ووعورة الوصول إلى الطرقات والموانئ ونقص الإمكانات التقنية، ما جعل الكثير من المبادرات في طور الرصد الأولي أكثر من الانتقال إلى الاستغلال المنظّم.

مرافئ صغيرة وطرق تربط الواحات بالساحل

وذكر أن الوثائق تناولت بشكلٍ متقطع وصف حالة الموانئ الصغيرة مثل مرباط وصلالة، وتُشير إلى الطرق التي تربط الواحات بسواحل الصيد، إضافة إلى ذكر الحظائر بوصفها عنصرًا بنيويًا في إدارة القطيع والمراعي والتخزين، وهذا التناول المجزّأ يضيء خريطة حركةٍ دائمة بين الداخل الزراعي والشريط الساحلي.

المناخ والاقتصاد الموسمي

كما أظهرت الوثائق أثر المناخ على الإنتاج وعلى المجتمع ككل؛ فبحسب توضيحات هارتلي، ينتقل التجار في فصل الخريف إلى التلال حيث يكثر الرعي، ويقدّمون المساعدة للسكان في جمع الحليب وتحويله إلى «الغي». وبين أكتوبر ويناير يستقرّ السكان في السفح، ومع بداية الأمطار الموسمية ينزلون أسفل الجبل مع القطعان، وتُوضَع المواشي والأعشاب في الحظائر. تبيّن هذه الحركة الموسمية كيف أعاد المناخ توزيع العمل والموارد بين المرتفعات والسفوح والسواحل.

اقتصادٌ مركّب تقوده المياه ويؤطّره المورد

وأكدت المانعية في نتائج الدراسة أن الوثائق ترسم اقتصادًا متعدد المكوّنات كزراعةٌ محكومة بالماء، وصناعاتٌ تحويلية تستثمر السمك والمنتجات الحيوانية، ومؤشرات معادن وطاقة قيد الرصد. تتجلّى قابلية الاقتصاد المحلي للتكيّف عبر تنويع المحاصيل حسب الوصول للماء، واستحداث سلاسل قيمة بسيطة (تجفيف السردين، زيت السمك، السمن) تستجيب لحاجات المعيشة والتجارة.

آفاق راهنة

اختتمت المانعية حديثها لـ “أثير” باقتراح القيام بصناعات إبداعية رقمية تُحاكي بعض الصناعات القائمة في فترة الدراسة بشكلٍ مُبسّط؛ بما يسهم في إحياء الذاكرة الاقتصادية وتعليم الأجيال آليات الإنتاج التقليدي، وإتاحة منصّاتٍ تعليمية وتفاعلية تُحوّل الوثائق والصور والخرائط إلى تجارب معرفية تجسر الماضي بالحاضر، وإن استدعاء تلك الخرائط الوثائقية -من مسوحات هارتلي إلى خرائط السير سِريل- يمكّن من بناء سردية اقتصادية دقيقة لظفار بين 1906 و1950م، سرديةٍ ينهض فيها الماء بدور المُحدّد، وتتحرّك عبرها القوارب والقطعان في ساعة موسمٍ واحدة، وتكتسب فيها المرافئ الصغيرة وزنًا يتجاوز مساحتها حين تربط الحقول بالبحر والأسواق.

Your Page Title