الأولى

دراسة تكشف دور نقوش ظفار في فهم ميلاد الأبجدية العربية وتطورها

نقوش ظفار

أثير – جميلة العبرية

أوضحت أ‌. د. أسمهان بنت سعيد بن أبوبكر الجرو أخصائية دراسات تاريخية بمتحف عُمان عبر الزمان، أن اختيار نقوش ظفار موضوعًا للدراسة التحليلية “لنماذج من الأسماء البسيطة والمركبة في نقوش ظفار: نحو فهم أعمق لبدايات اللغة العربية المكتوبة” لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة سنوات من التأمل والبحث، مدفوعة برغبة عميقة في فك رموز ظلت غامضة لعقود.

ظفار

وأضافت في حورارها مع “أثير”: تمثل هذه النقوش شكلًا مبكرًا من منظومة الكتابة العربية الجنوبية القديمة، في موطنها الأصلي، أرض الأحقاف، التي تضم ظفار والمهرة وحضرموت وسقطرى. وكان الحافز الأكبر هو تمكين أبناء هذه الأرض من قراءة كتاباتهم القديمة بأنفسهم، بعد أن ظلت عصية على التفسير.

ميلاد العربية

تخبرنا أ.د. أسمهان أن اللحظة المفصلية في مسيرتها البحثية جاءت حين تأملت رموزًا منقوشة على أختام تجارية حجرية عثر عليها في رأس الجنز، موقع مجاور لأشهر موانئ مملكة مجان، والتي تعود إلى ما قبل 4200 سنة، رغم أن الرموز لم تُفسّر حينها، إلا أن افتراضًا بسيطًا غيّر مسار التحليل: ماذا لو كانت هذه الرموز تُعبّر عن أسماء سلع، مثل “ن” للنحاس، و“ك” للكحل؟ هذا الاحتمال فتح الباب أمام تفسيرها للرموز بوصفها مرحلة مبكرة من الكتابة التصويرية، وساهم في تمكينها من فك شفرة نظام كتابي ظل غامضًا.

تمتاز نقوش ظفار عن غيرها من النقوش السامية بكونها من أقدم أنظمة الكتابة، وتحديدًا منذ الألف الثالث قبل الميلاد، حيث تتنوع أساليب كتابتها؛ فقد تكتب أفقيًا أو عموديًا أو بشكل حلزوني، حسب طبيعة السطح الصخري، كما أنها تعتمد على كلمات قصيرة وأسماء فعلية ذات جذور عربية، مع ظواهر لغوية فريدة مثل القلب المكاني للجذر، وهي ظاهرة ما تزال حية في لهجات ظفار، مثل قولهم “لتق” بمعنى “قتل”، وهي مشتقة من “قتل” بقلب مكاني.

دراسة تكشف دور نقوش ظفار في فهم نشأة الأبجدية العربية وتطورها

وبينت أ.د.أسمهان إن تحليل النقوش أظهر أن الجذور الثلاثية المستخدمة تطورت عن جذور ثنائية أقدم، مما يدعم الفرضية اللغوية بأن الأصل في العربية هو الجذر الثنائي، وأن الجذر الثلاثي جاء لاحقًا لأغراض صرفية ودلالية. الجذر “ط ل ب” على سبيل المثال، تطور عن الفعل “ط ل”، وهو نمط تكرّر في نقوش ظفار، مما يعكس مرحلة بدائية من تطور البنية الاشتقاقية في اللغة العربية.

وتكمل: أما تنوع أشكال الحرف، فقد تم التعامل معه عبر ما سمي بـ“الصورة الأم” لكل حرف؛ وهي الصورة الرمزية الأصلية التي تطورت عنها أشكال متعددة. على سبيل المثال، الشمس تمثل حرف “ش”، والعين لحرف “ع”، والبيت لحرف “ب”. هذا التنوع يعكس مسارًا تطوريًا طويلًا للكتابة، يمتد آلاف السنين. ورغم تعدد الأشكال، حافظ النظام الصوتي على 28 صوتًا، وهو ما يتقاطع مع الأبجدية العربية الحديثة.

ألفبائية نقوش من ظفار

وأوضحت أن المقارنة مع أنظمة الكتابة السامية الأخرى –مثل الفينيقية والآرامية والنبطية– أظهرت أن نقوش ظفار رغم تقاطعها مع العربية الجنوبية، إلا أنها أكثر التصاقًا بالعربية المبكرة من حيث الشكل والمضمون. كما أنها تسبقها زمنيًا، مما يضعها في موقع مركزي في فهم النشأة الأولى للغة العربية المكتوبة.

وأشارت إلى أن هذه النتائج تضع النقوش الظفارية والرستاقية في صدارة الأدلة على تطور اللغة العربية منذ العصر البرونزي، وتُعيد ربط تسلسل الكتابة من المسند اليمني، وصولًا إلى الخط النبطي، ثم الجزم، الذي دُوِّن به القرآن الكريم، فهذا التسلسل التاريخي يعزز من أهمية البحث بوصفه جهدًا وطنيًا في حفظ التراث وإعادة كتابته وفق أسس علمية دقيقة.

نماذج من نقوش ظفار

من جهة أخرى، أكدت الباحثة بأن الدراسة الأكاديمية تسهم في إعادة تقييم نشأة الأبجدية العربية في سياق اللغات السامية. فهي لا تُقدّم العربية كامتداد للغات سابقة فحسب، بل تُظهرها كلغة ذات جذور أصيلة وتكوين مستقل، أثّر في محيطه اللغوي والثقافي، وألهم حضارات متعددة، مضيفة أن هذا الطريق لم يكن سهلًا، فمن أكبر التحديات التي واجهتها كانت مقاومة بعض الأوساط الأكاديمية، خاصة عند تقديم فرضيات جديدة قد تتجاوز أو تزعزع نظريات راسخة، إضافة إلى غياب الدعم المعنوي، وهو ما جعل من الشغف بالحقيقة والإيمان برسالة البحث العلمي وقيمة التراث العُماني الدافع الأوحد للاستمرار.

ووجهت البروفسورة الدكتورة أسمهان في ختام حديثها رسالة للباحثين الشباب قالت فيها: لا تخشوا من صعوبة الطريق، فمن يمتلك الحب غير المشروط لتراث بلاده، ويؤمن بالبحث العلمي، سيصل حتمًا.

دراسة تكشف دور نقوش ظفار في فهم نشأة الأبجدية العربية وتطورها

وأضافت: لا تقرأوا التاريخ والآثار والنقوش فقط، بل اقرأوا الذاكرة الحيّة لأجدادكم لتعيديون لها صورتها وصوتها، أما عُمان واليمن، اللتان اختارهما الله موطنًا لأهل الأحقاف، ما تزالان تنبضان بالحروف الأولى التي ألهمت أبجديات العالم القديم، وستظلان تكتبان في أبجديات المستقبل.

Your Page Title