الأولى

الكاتب السوري محمد حسن يكتب: عُمان على فُلك السلامة تسيرُ نحو مستقبلها الموعود

حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق وصاحب السمو السيد ذي يزن

محمد حسن

كاتب وباحث سوري

في خافقة الزمن، هناك تواريخ تمر كومض برق، وهناك تواريخ تُنقش في صخر الوجدان، وتصبح نبضًا في قلب أمة. تمرُّ بنا هذه الأيام ذِكرى اليوم الوطني العُماني، فتَفتَحُ أمامنا أبوابَ التاريخ، لا لنعبرَ منها إلى الماضي، بل لنجدّدَ العهد مع المستقبل. رحلةٍ بدأت شرارتها في عمق القرن الثامن عشر، وما زالت شعلتها تتوهج إلى اليوم لتضيء دروب المستقبل، إنها ذكرى تَحملُ في طيّاتها مائتين وواحدًا وثمانين عامًا من العطاء، منذ أن أَسَّسَ الإمام أحمد بن سعيد دولتَه عام 1744، حاملًا مِشعَلَ الوحدة والأمان، باسطًا ظلَّ العدل على هذه الأرض الطيّبة.

هذا اليوم، بعمقه التليد، هو وقفةٌ عند منبع النهر العظيم الذي تدفّقت منه حضارةٌ وثّابة. نبعٌ فجَّر من رحم التحديات وحدةً كادت أن تضيع، ورفع راية السيادة في سماء كانت ملبدة بالغيوم. ففي ذلك التاريخ، لمّ الإمام أحمد بن سعيد شتات الوطن وأسّس لمنطق الدولة القادرة على البقاء والتطور، منطقٌ قائم على العدل والاستقرار والتوازن. ومن تلك البذرة الأولى، نمت شجرة عُمان الباسقة، جذورها ضاربة في أعماق التاريخ، وأغصانها ممدودة نحو آفاق المجد والريادة، لتصل بأسطولها البحري إلى أقاصي المحيط، وتجعل اسم عُمان علامة للقوة والتجارة والسلام.

إن مسيرة عُمان أشبه بسيمفونية تاريخية عزفها سلاطين عظام، كلٌّ في عهده أضاف لحنه الخاص. فمن السلطان سعيد بن سلطان الذي وسّع الإمبراطورية، إلى من واجهوا عصور التحديات بحكمة وصبر، كانت كل مرحلة هي حلقة في سلسلة ذهبية من الاستمرارية، حتى أشرقت شمس النهضة العُمانية الحديثة، وجاء القائد المؤسس، السلطان قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه، ليكون شمسًا أنارت البلاد من أقصاها إلى أقصاها. في خمسة عقود، نقل عُمان نقلةً حضاريةً هائلة، وحوَّلها إلى دولة عصرية يانعة، وغرس في نفوس أبنائها معنى المواطنة والولاء، ورسّخ مكانتها بين الأمم شامخةً بالعدل والاعتدال. كانت نهضته، رحمه الله، صرحًا شاهدًا على أن الإرادة القوية قادرة على أن تصنع المعجزات، وهي نهضةٌ لم تكن لتُقام على أنقاض الماضي، بل على مدامكه، ليأتي العيد الوطني كوقفة تأمُّلٍ وأمَلٍ للماضي والمستقبل، وليست المهرجانات سوى نقطة استراحة والتقاطِ الأنفاسِ لمواصلةِ رحلةِ البناء الشَّاقَّة، ليكمل تلك الرحلة الشاقة كمجدّد وبانٍ لمستقبلٍ أكثر إشراقًا، حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه حاملًا لواء التحديث والتطوير في إطار من الحكمة والتوازن، محققًا للشعب العُماني مزيدًا من التقدم والازدهار، معلنًا: “أنّ يوم 20 نوفمبر من كل عام سيكون اليوم الوطني لسلطنة عُمان. فهو اليوم الذي افتخر فيه آل بوسعيد بخدمة هذه الأرض العزيزة منذ عام 1744 ميلاديًا بقيادة الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي. لقد رفع الإمام أحمد بن سعيد راية وحدة الأمة العُمانية، وحقق السيادة الكاملة على أراضي عُمان، وضمن الحرية والكرامة لأبناء هذا الوطن الشريف من خلال جهوده وتضحياته العظيمة”. محولًا جلالته مسار الذكرى إلى ينبوعها الأول، فجعل منه يومًا وطنيًا يجسّدُ الحكمةَ والبصيرة، ويُعيدُ الربطَ العضويَّ بين الماضي المجيد والحاضر المشرق.

في العشرين من نوفمبر، لا تستعيد عُمان ذكرى من الماضي بقدر ما تُعيد فتح سؤالٍ قديم: كيف يمكن لدولةٍ وُلدت في منتصف القرن الثامن عشر أن تحافظ على خيطٍ متصل من الاستمرارية، في عالمٍ تغيّرت خرائطه مرارًا، وتبدّلت موازينه، وتحوّلت أنماط السلطة فيه من جيلٍ إلى جيل؟ هذا السؤال، هو ما يجعل تاريخ 1744 حاضرًا إلى اليوم بوصفه نقطة انطلاق ما تزال فعّالة في بنية الدولة الحديثة. فالحدث المؤسِّس لم يكن مجرّد انتقال للسلطة، بل عملية إعادة تشكيل للفضاء السياسي في عُمان. الإمام أحمد بن سعيد لم يقدّم مشروعًا نظريًا للدولة؛ بل نظّم، في سياقٍ شديد الاضطراب، شروط الاستقرار الداخلي، وفتح الطريق أمام ما يمكن أن نسميه اليوم منطق الدولة، ومنذ ذلك الحين، ظلّ هذا المنطق هو العنصر الأكثر ثباتًا في التجربة العُمانية، وهو المنطق ذاته الذي يشكل اليوم حجر الأساس لـ “رؤية عُمان 2040”، ليؤكد أنّ البناء الحديث لا يقوم بقطع جذور الماضي، بل بالانطلاق من قيمه العظيمة وأسسه المتينة، فالدولة البوسعيدية لم تكن مجردَ حُكمٍ تأسّس في غفلة من الزمن، بل كانت شجرةً باسقةً، غرَسَها الإمام أحمد بن سعيد في تربةِ العزيمة، وسَقَتها أجيالٌ بعدهم بالعزم والإصرار، حتى أصبحتْ ظِلًا وارفًا يُؤوي، وَثَمَرًا يانعًا يُغْذِي.

لقد آوتنا هذه البلد العزيزة كعزة تاريخها وعراقة شعبها ومازالت لا تترك ضيفاً ولا سائحاً ولا مقيماً إلاّ وعبرت له عن طيبةٍ منقطعة النظير واحتضانٍ يشعر معه الزائر أنه بين أهله وفي بيته وعلى أرضه، لقد عبرّت سلطنة عمان في هذا اليوم الوطني المجيد عن احتفاء كبير وفهم عميق لمعنى اليوم الوطني بعد ربطه بالينبوع الأول ومرور خمس سنوات أيضًا على تولي جلالة السلطان هيثم دفة البلاد خرج بها من عنق الزجاجة وسار بها بخطوات وئيدة تدق في الأرض رواسخها نحو مستقبل مشرق شهدت عُمان خلال الخمس سنوات الأولى منه تحسنًا في مؤشرات التصنيف الائتماني والمديونية، حيث رفعت وكالات التصنيف تصنيفها إلى مستوى الجدارة الاستثمارية، وانخفض الدين العام مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، وتحسن مؤشر كلفة الدين العام، وعلى صعيد المؤشرات الأخرى، تقدمت السلطنة في مؤشرات مثل الحرية الاقتصادية وريادة الأعمال والأداء البيئي، وازدادت الاستثمارات الأجنبية المباشرة، كما أظهرت نمواً في الناتج المحلي الإجمالي بدعم من الأنشطة غير النفطية، وذلك بفضل جهود الإصلاح المالي والهيكلي التي هدفت إلى ضبط الإنفاق وتنويع مصادر الدخل، وما تزال تجد السير نحو الكثير من الإنجازات المرتقبة.

أظهر الاستعراضَ العسكريّ الباهر الذي أُقيم على ميدان الفتح صورةً حيّة عن انضباطٍ فائق تسير عليه مؤسسات الدولة، وتعبيرًا عن عزيمة راسخة اكتملت دلالتها مع استعراض الأسطول البحري حيث اختزل قائد المسيرة، صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله- صورة عُمان وهي تسير على فُلك السلامة، بأشرعة العزيمة والإرادة نحو المستقبل الموعود.

كما أظهرت الفرحة العفوية والعارمة بين العمانيين من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب شعبًا يلتف حول قائده واثقًا بقدرته على الانتقال به نحو الرخاء والأمان مدركين أهمية العمل الجماعي بأن يبدأ كُلُّ شخصٍ من نفسه ليعطي من فكره وجهده، هذه البلد المبارك بعض ما تستحق، وأن تتكاتف كل تلك الأيدي المعطاءة لجعلها دُرّة هذا الشرق، وهذا الوعي هو تجسيد حي لمسؤولية مشتركة تضع الأجيال الحالية والقادمة أمام قراءة معمقة لتاريخهم، وتوقظ في نفوسهم الذاكرة التاريخية وتجليات هويتهم الحضارية. إنها دعوة لاستحضار العبر والدروس التي قدمها الأجداد، ليكون الاحتفال باليوم الوطني منصةً لتأصيل قيم الاجتهاد والعمل واحترام النظام والإخلاص، والمحافظة على مكتسبات الوطن. فمن يعرف تاريخه يصنع مستقبله بثقة وإخلاص، والمواطنة الصادقة تكون بالفعل والإنجاز والإخلاص في العمل. إنّ جلالة السلطان هيثم -أيده الله- يسارع الزمن في إطار من الحكمة والتوزان لتنفيذ «رؤية عُمان 2040»، والتي ستُحقِّق للبلاد التقدُّم والازدهار والرخاء والتنمية المنشودة والتنويع الاقتصادي وبناء اقتصاد المعرفة، إنها نهضة متجددة تتكئ على إرث عريق، وتنظر بثقة إلى غدٍ واعد.

وهكذا، يبقى العشرون من نوفمبر لغة جامعة وذاكرة خالدة. هو يوم يتجدد فيه العهد بين الشعب والقائد، يوم يُستحضر فيه نضال الأجداد، ويُستلهم منه عزم الأبناء. إنه ليس مجرد احتفال بالماضي، بل هو وقفة تأمل نسأل فيها أنفسنا: ماذا قدمنا وماذا سنقدم؟ لتبقى عُمان شامخةً، حصناً منيعاً، وواحة أمنٍ وأمانٍ، تحت ظل قيادتها المظفرة، وبإخلاص أبنائها البررة.

فكل عام وعُمان، أرضاً وقيادةً وشعبًا، في ازدياد من المجد والعزة.

Your Page Title