محمد حسن - كاتب وباحث سوري
تُعدّ مسرحية لعبة «البينغ بونغ» لأرثر أداموف في خمسينيات القرن الماضي واحدةً من أكثر الأعمال نبوءة وقدرة على كشف طبيعة الوهم الذي يتأسس عليه العالم الحديث. فالعمل رغم عنوانه الذي يستحضر لعبة بسيطة تقوم على حركة تكرارية جيئةً وذهاباً، يذهب أبعد من ذلك بكثير. إذ يستخدم أداموف «البينغ بونغ» كرمز دائري للحركة العبثية التي لا نهاية لها، حركة تشبه دوران الإنسان داخل نظام اقتصادي ونفسي لا يستطيع مغادرته، قد نكون فيه أشبه بكرات البينغ بونغ في وثباتها وارتداداتها أمام شبكة الأحداث؛ كلما توقّع الإنسان أن يستقرّ في موضع ما، طوّحته عقبة مفاجئة إلى مكان أبعد مما يظن. وفي مركز هذه الحركة يضع أداموف آلة القمار التي تتحكم بحياة الشخصيات، والتي تُعرف في بعض الدراسات النقدية باسم «آلة الغليبرز»؛ وهي تسمية صوتية لمحاكاة الضجيج المعدني (Glip Glip) الذي تصدره الآلة أثناء ابتلاع النقود وإعادة تدويرها. هذا الصدى أصبح جزءاً من تخييل واسع يرى في صوت «الغليبرز» صدى لقلق الإنسان المعاصر نفسه.
تبدو لعبة الفلوس هذه أو الغليبرز عملاً يتجاوز حدود الخيال المسرحي إلى منطقة أكثر خطورة، منطقة تشريح بنية الوهم الذي تقوم عليه المجتمعات الحديثة. فالجهاز الذي يبتكره أداموف في عالم مسرحي مضطرب ومشوَّه لا يمثل مجرد آلة للقمار أو الرهان، بل هو صورة مُكثّفة للمنطق الذي يحكم البشر حين ينفلت المال من كونه مجرد وسيلة، ليصبح غاية كونية تُعيد تشكيل القيم والعلاقات والأخلاق. الجهاز الذي ينتصب في قلب المدينة ويستدرج الناس إليه بوعد الربح السريع، هو في جوهره استعارة لفكرة السوق بوصفه قدراً جديداً يتحكم بمصائر البشر، وقدراً يفرض على الجميع أن يعيشوا في دائرة لا تتوقف من الخسارة وتزويق البؤس.
يتحوّل المجتمع في المسرحية إلى كيان مهووس، إذ يفقد الناس وظائفهم وقيمهم وتوازنهم النفسي، يفكّك الجهاز العلاقات الإنسانية كما يفكّك بنية العمل نفسها. يترك الموظفون أعمالهم، تتفكّك العائلات، تنحدر العلاقات الإنسانية إلى قاع من الشكّ والريبة، ويصبح كل فرد مسجوناً فيما يشبه الطابور الأبدي أمام الجهاز، طامعاً في تلك اللحظة التي يظن أنها ستغيّر حياته. لكن لعبة الغليبرز لا تغيّر سوى شيء واحد: وعي الإنسان بذاته. فهي تكشف هشاشته ورغبته الجامحة في تصديق ما يُرضيه، مهما كان زائفاً. هنا ينجح أداموف في تحويل الجهاز إلى كيان سردي يبتلع الشخصيات، كأنه يكتب عن مجتمع يلتهم نفسه دون أن يدرك.
وقد لا تكون مأساة تلك اللعبة كامنة في الآلة نفسها بقدر ما تكمن في الإنسان الذي يبحث في اللعبة عن مهرب من اغترابه الداخلي. فالفرد، في عالم أداموف، لا يتجه نحو الجهاز بدافع الربح وحده، بل هرباً من مواجهة ذاته. إن لعبة الغليبرز تكشف أن الإنسان المعاصر لم يعد قادراً على احتمال السأم، وأنه يفضّل الانشغال المستمر، ولو كان انشغالاً تافهاً يشبه حركة كرة تتخبط بين مضربين، على مواجهة السؤال الأكثر إيلاماً: ماذا يتبقى من الإنسان خارج دائرة الربح والخسارة؟ تبدو اللعبة كأنها تحلّ محلّ المعنى الغائب، وكأن الضجيج المعدني للآلة يقوم مقام الصوت الداخلي الذي كان يوماً يذكّره بوجوده. إنها محاولة يائسة لملء فراغ روحي لا تستطيع الآلة ملأه، لكنها تتقن خداعه وتبقيه في دوار لا ينقطع.
في عالم اليوم، لا نجد اغتراب الإنسان عن نفسه فقط بل اغتراباً عن الاغتراب نفسه. فالإنسان الذي يقف أمام آلة الغليبرز يشبه تماماً “الإنسان ذو البعد الواحد”، إنه إنسان فقد القدرة على التفكير النقدي، واستبدل احتياجاته الحقيقية بأخرى مصطنعة تنتجها الآلة. فالرغبة في الربح السريع ليست رغبة أصيلة في الإنسان، بل هي “رغبة مُصطنعة” تخلقها الآلة ثم تقدم نفسها كحل لها. وهكذا يدور الإنسان في حلقة مُفرغة: يبحث عن حلّ لمشكلة صنعتها الآلة نفسها. إنّ ماكينة الغليبرز لا تنتج مجرد خسائر مادية، بل تنتج وعياً زائفاً يجعل الإنسان يعيد إنتاج استغلاله بنفسه. إنها آلة لا تحتاج إلى رقابة خارجية، لأن ضحاياها هم حراسها الأوفياء، حيث يصبح الوهم نظاماً كاملاً للتفكير، ويصبح الصدى المعدني للآلة هو الصوت الوحيد المسموع، الذي يطغى على كل الأصوات الداخلية التي قد تنبه الإنسان إلى واقعه.
لعل أخطر ما تكشفه البينغ بونغ هو أن اللعبة لم تعد نشاطاً جانبياً، بل أصبحت القدَر الجديد للإنسان المعاصر. ففي الأزمنة القديمة كان القدَر قوة غامضة تُساق من السماء، أما اليوم فقد نزل القدَر إلى الأرض واتخذ هيئة لعبة، منصات تداول، ولصاقات أسعار، وإشعارات تسطع من شاشة هاتف. صار الإنسان يعيش داخل دائرة تُشبه قوانين اللعب أكثر مما تُشبه قوانين الحياة. إنّ قلبه يخفق بإيقاع رقمي لا يفهمه، وعقله يستسلم لمنطق الربح والخسارة كأنه قانون كوني. هنا تتحول اللعبة إلى مصير، ويتحوّل الإنسان إلى مادة للآلة كما الكُرة بين مضربين. عندما نحاول قراءة هذه المسرحية في ضوء واقع اليوم تتضاعف نبوءتها، فالعالم المعاصر يعيش تحت سلطة آلات جديدة، ليست ميكانيكية مثل جهاز الغليبرز، بل رقمية أدق وأشد نفوذاً: منصات التداول السريع، العملات المشفرة، خوارزميات التواصل الاجتماعي، اقتصاد المؤثرين، الأنظمة التسويقية التي تُصمَّم بعناية لتمنح المستخدم جرعات صغيرة من الدوبامين السريع. كل هذه المثبطات تعمل وفق المنطق نفسه الذي عبّر عنه أداموف: وهمُ المكافأة الفورية الذي يُبقي الإنسان دائم التطلّع، دائم الاستهلاك، دائم الخضوع، وما قاله أداموف عن الجهاز الذي يحكم المدينة دون أن يعرف أحد من يديره، يبدو مطابقاً لوضع شركات التكنولوجيا العملاقة اليوم، تلك التي تملك سلطة لا يُرى وجهها ولا تُسأل عن نتائج صناعتها.
إنّ أهم ما تقدمه هذه المسرحية هو الكشف عن نوع جديد من العبودية، ليست قائمة على القسر أو السجن، بل على الرغبة، فالإنسان لا يُجبر على الوقوف أمام الجهاز، لكنه يذهب إليه طائعاً، مدفوعاً بالوهم. في هذا المعنى، تجرّ المسرحية القارئ إلى إدراك أن الحرية قد تصبح قيداً حين تنفصل عن الوعي، وأن السوق قد يتحول إلى معبد حديث له طقوسه ومؤمنوه، وأن الإنسان قد يتعبد لآلة لا تمنحه شيئاً سوى وهم السيطرة. حيث يقف الإنسان في طابور الانتظار وحده، لا أحد يدري به ولا أحد يهتم به، ولا أحد يعنيه ولا هو يعني أحداً من الناس. الإنسان وحده يُولَد، وحده يقف، وحده يتسوَّل، ووحده يموت، ولا تقتصر سيطرة الآلة على النفوس فقط، بل تتعداه إلى الكوكب نفسه. فاقتصاد الوهم هذا يحتاج إلى طاقة حقيقية ليبقى مستمراً: مراكز بيانات تستهلك كهرباء تكفي مُدناً بأكملها، وأجهزة تتقادم بسرعة لترغمنا على الاستهلاك المستمر. إنّ دوامة الاستهلاك التي تخلقها هذه الآلات الرقمية تلتهم الموارد الطبيعية كما تلتهم الأرواح البشرية، وفي ظل هذا التغول الرقمي، يبرز سؤال ما بعد إنساني مخيف: هل ما زلنا بشراً بالمعنى التقليدي؟ أم أننا أصبحنا كائنات هجينة، نصفنا بيولوجي ونصفنا رقمي؟ لقد تحولنا إلى “بيانات” في خوارزميات، إلى أرقام في إحصائيات، الإنسان الذي كان يخشى أن تستعبده الآلات أصبح يخشى أن تهمشه إذا لم يندمج معها بشكل كاف.
ولعل النهاية التي يرسمها أداموف، حيث تستمر المدينة في الدوران حول الجهاز دون توقف، تمنح العمل عمقاً إضافياً وتكشف أنّ المشكلة ليست في الآلة نفسها، بل في البنية النفسية لمجتمع يفضّل الوهم على الحقيقة، ويبحث عن السعادة في مكان لا يمكن أن يمنحها. إنها مسرحية عن الإنسان الذي يفتقد المعنى، وعن النظام الذي يملأ هذا الفراغ بوعد السراب. وفي النهاية يصبح السؤال الذي تطرحه المسرحية اليوم أشد راهنية: هل نحن حقّاً نتحكم بالأدوات التي نستخدمها، أم أنها هي التي تتحكم بطريقة تفكيرنا وإحساسنا بذواتنا؟ كان الإنسان فيما سبق يقرأ مأساة مكره وجشعه في أسطورة سيزيف الذي حُكم عليه بدحرجة صخرة إلى قمة جبل ومن ثم تتدحرج إلى الأسفل ويعيد رفعها وهكذا دواليك في عقاب أبدي لا ينتهي، اليوم مُسخت تلك النظرة مع مسخ الإنسان نفسه إلى صخرة سيزيف نفسها. لقد هجر سيزيف قمة الجبل إلى كرة الطاولة ليسدد من حساب مصيره الأبدي فاتورة سأمنا. داخل هذا الفراغ الخاطف بين ضربة المضرب ورجفة القلب ربما ينكشف لدينا أن اللعبة ليست على الطاولة بل في داخلنا وأن التحرر يبدأ من الرأس ليس بالانتصار على اللعبة بل بالانتصار على الحاجة إليها، وأنّ الحُبّ والخيال والدهشة ربما تكون آخر ما تبقى لنا في عالم يريد تحويل كل شيء إلى لعبة... حتى نحن أنفسنا.

