خاص- أثير
بأيّ زاوية يبدأ الحديث عن هذه القصة الإنسانية، وهي بكل مفرداتها تستحق أن تُكتب بماء الذهب؛ بعدما انسكب من الأعين دمٌ بدلًا من الدموع، وانهمل من الجسد وجعٌ ظل متواصلا حتى جاء القلمُ وأوقفه بحروفٍ أخذت من “الشفق” سحره، ومقالات نبضت في صميم “الوطن” بصدقٍ وجداني؛ فكان لها ما أرادت من التفاعل والتجاوب.
وكغيرِ كل الحكايات المعتادة يبدأ مشهدنا من النهاية؛ فخالد بن أحمد جعبوب يتقدّم من المنصة ليتسلّم شهادة البكالريوس من جامعة ظفار في ديسمبر 2025م، مبتسمًا أمام آلات التصوير، مختزلًا قصة ابتدأت بـ “دموع ودم” في الرابع والعشرين من مارس 1997م، كيف لا وهو الذي قيل فيه:
“لاجل (خـالد) استحق
طفـل طـالبـنـي بـحـق
يـرتـجـي مـنـي مــددَ"

ذلك الطفل وفق ما يرويه والده أحمد جعبوب لـ “أثير” لم يكن ميلاده في مستشفى السلطان قابوس بصلالة حدثًا عابرًا؛ إذ جاء إلى الحياة والنزف يرافق أنفاسه الأولى، نزفٌ غامض بلا تفسير طبي واضح آنذاك، فوصفته الفحوصات حينها بأنه “حالة نادرة”!
نُقِل خالد على وجه السرعة إلى مستشفى جامعة السلطان قابوس في مسقط، ليعيش أربع سنوات كاملة من النزيف المستمر من الأنف والجلد وسائر الجسد، مع نقلٍ متكرر للدم والصفائح الدموية، وبقاءٍ على قيد الحياة بقدرة الله وحده، دون تشخيص حاسم أو علاج فعّال.

قام الأطباء بجهدهم وما استطاعوا إليه سبيلًا؛ لتنتقل في بداية الألفية دموع خالد ودماؤه إلى قلم الأستاذ الإعلامي القدير الدكتور عبدالله بن علي باحجاج؛ ليخرج القصة من جدران المستشفى إلى فضاء الوطن، فتعامل معها بوصفها قضية وطنية لا خبرًا عابرًا، فأعدّ برنامج «في دائرة الضوء» في عام 2001م ليقدمه الإعلامي القدير عامر العمري، ويخرجه فخري بن عبدالمولى المرجان، وبعدسة المصوّر خالد معجين الرواس، حيث نزف خالد مباشرة أمام كاميرا التلفزيون العُماني، ونُقِل إلى المستشفى وأُغمي عليه من شدة النزيف، لتتحول إلى قضية رأي عام، فهبّ المواطنون يعرضون التبرع وتحمل التكاليف، في صورة ناصعة لمعنى التكافل في المجتمع العماني.

وكما عرض بعض المواطنين تبرعاتهم، فإن آخرين قاموا بسعيهم وجهدهم لإيصال القصة إلى سلطاننا الخالد المغفور له بإذن الله السلطان قابوس بن سعيد -طيّب الله ثراه- وهو في سيح الزمائم بمحافظة الوسطى؛ فأمر على الفور بعلاج خالد خارج الوطن.

ولأن هذه الحالة نادرة فقد اعتذرت عدة مستشفيات عالمية عن استقبالها؛ لخطورتها وندرتها، فشاءت الإرادة الإلهية أن تُستقبل في مستشفى جامعة أولم بجمهورية ألمانيا الاتحادية، ثم نُقلت إلى أكبر مراكز أمراض الدم وزراعة النخاع، وبعد عام كامل من البحث والتشخيص، تقرر إجراء زراعة نخاع، في واحدة من أخطر العمليات آنذاك، واشترط الأطباء أن يكون المتبرع من الأسرة، فلم تتطابق الفحوصات مع الوالدين ولا مع الأخ الأكبر لخالد، فطلب رئيس المستشفى استدعاء الشقيقة الصغرى “منى”، التي لم يتجاوز عمرها ثلاثة أشهر وكانت في عُمان، وعند إجراء الفحوصات جاءت النتيجة مدهشة: تطابق نخاع منى مع خالد بنسبة 100%.

انتظر الأطباء حتى بلغت منى أحد عشر شهرًا، ثم بدأت أخطر المراحل؛ فقد عُزِل خالد عزلًا كاملًا، وأُجريت لمنى عملية دقيقة لاستخلاص النخاع، نُقل بعدها مباشرة إلى خالد ليُكتب النجاح للعملية، ويستمر العلاج والمتابعة ثلاث سنوات، ثم يتوقف النزيف نهائيًا، وكأن خالد وُلد من جديد، ليوثّق تشخيص مرض خالد باسم سلطنة عمان كأول حالة في تاريح الطب آنذاك عام ٢٠٠٢م.

ولأنها قصة وطن، فيها كثيرٌ من الوفاء، وعظيمٌ من السخاء؛ فقد حرّكت حروف الشاعر الكبير سالم بن بخيت المعشني “أبو قيس” ليجسّدها في قصيدته الشهيرة “الشفق” لتُغنّى بفن الوياد ضمن أوبريت “أمّة وقائد” في يوليو من عام 2005م على مسرح المروج بظفار، لتطوف “الشفق” أرجاء عُمان والوطن العربي، حتى ظنّ البعض -لقوة تأثيرها- بأنها من كلمات السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه-.

خالد الذي تخرّج هذا العام بعدما دخل جامعة ظفار بتوصية كريمة من سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان، استنار “الشفق” لديه، وتبدد “القلق” من حياته، و“زاحت آلامه” كما تمنّت حروف “أبو قيس” في ختام قصيدته:
“رحـمـتـك رب الفـلـق
يـا منجّـي مـن صـدق
زيــــح آلامـــي أبــــدَ"

فغفر الله للسلطان قابوس على سخائه وعطائه، وجزا سماحة المفتي خير الجزاء على كريم توصيته، وعوّض خيرًا كل من ساعد خالد بحروفه على إيقاف “دمـع الأرق”.

