تاريخ عمان

شيخ المتصوّفين في عمان بمنتصف القرن الثامن عشر الميلادي

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

 

أثير – تاريخ عمان 

 

لقد شهد النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي اتجاه العمانيين إلى عالم التصوف الذي رأوه موافقا للدين، وللمبادئ الشرعية التي يؤمنون بها، والتي كانت أساس تصوفهم وكتابتهم لشعر التصوف الذي أطلقوا عليه شعر السلوك ليصبح مصطلحا يعبر عن التصوف لديهم ، وبما أن الإتجاه الصوفي في عمان كان أساسه الشريعة الإسلامية ومبادئه فهو لم يتأثر بالأفكار الدخيلة التي لحقت ببعض المتصوفين، بل ظل متماسكا بمبدأ الزهد.

 

ولقد كان رواد التصوف العمانيين ينظرون إلى فكرهم في عمومه فكرا تنزيهيا لا يدعو إلى اتخاذ الأذكار بهيئة جلسات، وطقوس تتبع، وأناشيد تتلى ، بل كانوا يفضلون الخلوة واستعمال الأوراد متأثرين بالتراث الصوفي النقي والذي كان أساس مسارهم الذي أخذ ينمو في المجتمع نتيجة شعور بعض أفراده بالظلم، وهضم الحقوق، وبالأخص نتيجة تلك الاوضاع السياسية، والإجتماعية، وبعض الفتن التي كانت تعصف بعمان في بعض فتراتها.

 

ويعتبر الشيخ أبو نبهان جاعد بن خميس الخروصي رائد الحركة الصوفية في عمان بتلك الفترة ، فقد انفرد بمواضيع لم يسبقه من علماء عصره بالمجتمع أيّ أحد ، وكان من أهم الشعراء المتصوفين الذين أثروا الإتجاه السلوكي في الشعر العماني ، واتجه بالشعر من الغزل بالمحبوبة، والهيام بها ، إلى اختزال كل مشاعر المحبة الجياشة للذات الإلهية،  فقد قال في إحدى قصائده على سبيل المثال لا الحصر :

 

 

 

ولو أن نور الحب أورى بقلبه – أوار الهوى أمسى وفي جسمه نحل

 

وخمر الهوى لو خامر القلب بالجوى  – لما رده بذل ولا صده عكل

 

ولو أنه صب شجي من الهوى – لما رام غيرا لا ولا مسه كل

 

 

 

ولقد اتصف الشعر الصوفي لأهل عمان بكثرة الإحالة إلى القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، والتأثر بالنزعة الدينية، ولا عجب في ذلك ، إذ انحصرت مواضيعهم جميعها في الزهد، وطلب المغفرة من الله ، والمناجاة الإلهية، ومخاطبة النفس والدعوة للإصلاح، والأخلاق للتخلص من الذنوب بلغة الرمز، والضمائر المقرونة بحروف الجر .

 

وبذلك عرف الأدب في عمان بظهور الشعر السلوكي الصوفي لونا جديدا من ألوان الشعر العماني زاده ثراء، وخصوبة وبثت فيه روحا جديدة ابتعدت عن التقليد .

 

ويعتبر الزهد هو الموضوع الأساسي في شعر السلوك لدى العمانيين، كما أسلفنا ، ويهدف هذا الإتجاه إلى السمو بالنفس إلى مرتبة العبودية الحقيقية لله –عز وجل -، ونجد ذلك يتجلى في شعر شيخهم أبي نبهان جاعد بن خميس  وهو يقول :

 

فقدس هديت النفس من رين جهلها – به عاجلا تمحق به الذات والذنبا

 

وبادر إلى تجريدها من مزاجها – وإخراجها من يم أمشاجها سحبا

 

فإني أراها عن يقين غريقة على قبحها – في قعر بحر الهوى عطبا

 

 

ويرى الصوفية في عمان أنه لا بدّ من كلّ مريد من شيخ يرشده، وينير دربه، ليحفظه من نفسه، ومن الوقوع في الخطأ ، وفي ذلك يقول  أبو نبهان :

 

قدحت زنادا تستضيئ بنوره – ألباب كل العارفين وتشرق

 

قرشت لنار آنست أنوارها – تمحو من البال الخيال وتمحق

 

قحمت لهم وادي المقدس بالهدى – فنودوا ألا هذي الحقائق تنطق

 

ولا شك أن أبا نبهان جاعد بن خميس الخروصي له العديد من الشعر السلوكي صقل تجربته الصوفية فيها، ولا زالت قصائده محفوظة في تلك المخطوطات الثمينة الموجودة في خزانة وزارة التراث والثقافة بمسقط والتي تحمل شعره كمخطوطة حياة المهج، وهي إسم قصيدته التي يقول في مطلعها :

 

تبين أخي في الله قولي فإنني – على النصح في ذات الإله مع العتبي

 

وقد فصّل الشيخ جاعد في قصيدته هذه طرق الوصول إلى سبيل الحق لمريديه ذاكرا فيها مقامات السالكين، وأحوالهم ، ففي مقام التجريد يقول مثلا :

 

وبادر إلى تجريدها عن مزاجها – وإخراجها من يم أمشاجها سحبا

 

وفي مقام الكشف من قصيدته يقول :

 

وإن أدرجت في مدرج الكشف روحه – رأى في مرايا الكشف نورا به يسبا

 

فإن شاهد المشهود لم ينظر الورى – لما قد يرى ما يدهش النفس والقلب

 

في قصيدة “حياة المهج” حاول الشيخ جاعد تعليم المتصوف كيفية السلوك إلى الله، والطريق إلى ذلك، وقد شرح قصيدته شرحا أدبيا، ونقديا شاملا بكل إسهاب اتصف بالتكرار والسجع ، فبدأ بذكر المعاني الغريبة، وتوضيح الصور الفنية التي يتطرق لها مع تناوله الجوانب اللغوية من نحو، وصرف، ومن ثم شرح كل بيت شرح أدبيا، ومن ثم شرحا صوفيا، وكل ذلك ليتجنب النقد وينزع تلك النظرة المتخوفة من الفكرالصوفي والقلق من تأثيره على الدين وثوابته ، حيث أن الصوفية في كثير من البلدان الإسلامية دخلتها بعض الأفكار المغرضة التي أدت إلى اعتبار النقاد أن الفكر الصوفي سطحي ، وغير ناضج لإرتباطه بالسرية في بدايات ظهوره .

 

وبعد أبي نبهان جاء ابنه الشيخ ناصر بن جاعد الذي أضاف لشرح هذه القصيدة الشيء الكثير، والإضافات التي تبين نضوجه التصوفي، واتباع منهج والده في التصوف ، ولقد كانت له تجارب خاصة في شرح قصائد علم السلوك، ومنها شرحه لقصيدة “ابن الفارض” الذي كان مثالا صوفيا يحتذى به من قبل علماء السلوك العمانيين، لما لمسوه من اعتدال في مذهبه الصوفي المشابه لمبادئهم .

 

 

وهكذا نشأ شعراء السلوك العمانيون ينهلون من علم شيخهم أبي نبهان جاعد بن خميس ومن بعده ابنه ناصر الذي يعتبر من المتصوفين الذين استخدموا مجموعة من المصطلحات في هذا الإتجاه التي لم يسبقه إليها أي أحد مثل مصطلح ” العقل مسجد الرب ” ، الحضرات القدسية ” والخ، من مصطلحات شرح بعضها في كتابه ( الإخلاص ) وبعضها في كتابه (إيضاح نظم السلوك ) ، وجميعها مخطوطات صوفية عمانية حفظت حتى يومنا هذا ينهل منها  العمانيون الكثير .

 

 

المرجع : عمان في عهدي الإمام سعيد والسيد سلطان بن احمد البوسعيدي (1783 – 1804 م ) – د. صالح بن عامر الخروصي – بيت الغشام للنشر والترجمة – الطبعة الأولى 2015م

Your Page Title