ذياب بن صخر العامري
[email protected]
مُنذُ خطوتِهِ الأولى على ظهر هذه البسيطةِ، يَظلُّ الإنسانُ سائراً في دروبها المُتشعّبةِ المُتباينةِ، قاطعاً رحلةَ العُمْرِ الطّويلةَ ـ القصيرةَ، وئيدَ السّيْر طوْراً، وغاذّاً فيه تارةً؛ وما انْ يَلتفتَ إلى الوراء قليلاً، حتّى يَجدَ خطواتِه الأولى على دروبِ هذه الحياةِ، قد أتى عليها حينٌ طويلٌ من الدّهر، فيأسف على ما قد فاتَ وانقضى من سِنِيِّ حياتِهِ، ويتمنّى لو أنَّ لهُ عُمرَ (الضَّبِّ) الّذي يُزْعَمُ إنّهُ يعيشُ ثلاثمائةِ عام أو يزيد!!
وهكذا من حيثُ يدري أو لا يدري، تأخذُ الإنسانَ رحلةُ العُمرِ المُتباينةُ من مشهدٍ مثيرٍ، إلى مشهدٍ رُبّما أقلّ أو أكثر إثارةً، وفي كرّها واختلافِها عليه، تحاولُ الأيّامُ والشّهورُ والسّنون، أن تُنسيَهُ المَشاهدَ المبكّرةَ الأولى الّتي كانت قد ارتسمت وتشكّلت وتكوّنت، ثمّ رَسَتْ واستقرّتْ واستوتْ، على رفوف مخيّلته الصّغيرة الغّضّة.
لكنَّ ثَمَّةَ مَشاهدَ نجدُها أحيانًا تَسْتَعْصِي على كَرِّ الزّمن واختلافِهِ، وعلى نوائبِ الدَّهْرِ وحَدَثانِهِ، ومنها مَشهدٌ ما زلتُ أتذكّرُهُ دائماً، وبصورةٍ جَليّةٍ وواضحةٍ لا تَدَعُ مجالاً للشّكِّ أو التّخمين، فكأنّهُ حَدَثَ بالأمسِ القريبِ فقط، ويبدو إنّهُ يأبى إلاّ أنْ يَستَقِرَّ في رفوفِ ذاكرتي ماحييت: إنّهُ مَشْهَدُ اليومِ الأوّلِ لِوُلوجي بَوّابَة المدرسة السّعيديّة بمسقط، ولو أنّ ذلك المشهدَ سيمضي عليه يوم الخميس الثالث من سبتمبر من هذا العام ٢٠١٥ على وجه التَّحديدِ، سـتّــونَ عامًا بالتّمام والكمال!!
لقد دَرَجَتِ العادةُ بأن تَسْتَهِلَّ إدارةُ المدرسة السّعيديّة بمسقط، العامَ الدّراسيَّ، في أوّل يومٍ من شهر سبتمبر من كلّ عام، إلاّ إنّ اليومَ الأوّلَ من شهر سبتمبر في ذلك العام الّذي التحقت فيه بالمدرسة، وهو عام 1955 صادف يوم خميس، الأمر الّذي جعل إدارة المدرسة تؤجّل بدءَ العام الدّراسيّ إلي يوم السّبت الّذي وافق الثّالث من شهر سبتمبر من ذلك العام.
وفي صباح ذلك اليوم اصطحبني والدي رحمه اللّه، من مدينة مطرح, في سيّارة (لاندروفر) الّتي قادها سائقُها العُمانيُّ بحذاقَةٍ، عَبرَ طرُقاتٍ مُتعرّجةٍ مُلتويةٍ، تحفُّ بها الجبال الصّلدة من جهة، فيما أمواجُ البحر العاتيةُ ترتطمُ وتلتطمُ بها من الجهة الأخرى، ما جعلني في مرّاتٍ عديدةٍ اُحْكِمُ إغلاقَ النّافذة المجاورة لي، خوفًا من أن ينالَ رشُّ موجةٍ هائجةٍ من (دشداشتي) الأنيقة، فتبلّلها وتعيدها إلى سابق عهدها، بعد أن كانت (المكواةُ) العتيقة، بدارنا الواقعةِ بحارة (الجيدان) بمطرح، قد أمعنت في هندمتها، برغم إنّها لم تكن مكواةً كهربائيّةً، بل كانت مكواةً بدائيّةً تستمدُّ طاقتها من جمرات الفحم المتوهّجة الّتي كانت تُحْشى بها، ذلك إنّ الكهرباء لم تكن قد عرفت بعدُ سبيلاً إلى دارنا إلاّ في أواخر شهر يناير من عام 1960 على وجه التّحديد, وعلى أيّ حالٍ فقد كنت طوال تلك الرّحلة المثيرة إلى مسقط حريصًا على أن يبقى مظهرُ (دشداشتي) بدون أيّ تَقَصصُّفٍ أوغُضون.
وما إن تَخَطّى بنا السّائقُ ذلك الطّريقَ التُّرابيَّ الضّيّقَ بمحاذاة البحر, حتّى بدأ يُغِذُّ في سيره بالسّيّارة إغْذاذا, صاعدًا بها إلى أعلى (عقبة ريام) الّتي كان يقفُ فوقها (سنتري) أو شرطي مرور، رانَ عليه المَللُ نتيجة عدم مرور سيّارةٍ أمامَه منذ وقت طويل, إذْ إنّ عددَ السّيّارات في ذلك الزّمان لم يكن ليتجاوز كثيراً عدد أصابع اليدين، أمّا الآن وسيّارتُنا تقتربُ من مكان الحلقة المستديرةِ الّتي كان يقفُ عليها، فقد استعادَ ذلك (السّنتري) في لمْحِ البصرِ نشاطَهُ واستجمع أقصى طاقته، فأخذَ يُلوّحُ بكلتا يديه، في جميع الاتّجاهات، بصورةٍ حَماسيّةٍ استعراضيّة تُفيدُ بأنّهُ قد سَمَحَ ووافقَ على مَنْح سيّارتنا الإذنَ بالمرور, فبدأ سائقنا الماهرُ ينحدرُ بها على مَهَلٍ، إلى أسفل العقبة، وذلك على طريقٍ حلزونيٍّ ضَيّقٍ، إلى أن استوتِ السّيّارةُ على طريقٍ ترابيٍّ آخَرَ ولكنّه منبسطٌ، أوصلنا في نهاية المطافِ إلى أمام بوّابة المدرسة السّعيديّة بمسقط!
نزلتُ ووالدي من السّيّارة، وولَجْنا بوّابةً شاسعةً واسعةً، ثمّ مشينا عبر ممرٍّ فسيحٍ تَحُفُّ بجانبيْهِ أرضٌ خِصْبَةٌ مُغَطّاةٌ بشكلٍ مُرتّبٍ ومُنسّقٍ وجميلٍ، بالعُشْبِ الأخضر النّضر وببعض الأشجار الصّغيرة، ممّا يُضفي على العين والرّوح معاً مزيجاً من الانشراح والأنسِ والبهجة.
وما إن صعدنا على المدرجات الإسمنتيّة الصّقيلة الدّاخليّة، حتّى كان (الأستاذ فيصل بن علي) في استقبالنا، فكان أوّلَ من تحدّث إليه والدي بالمدرسة في ذلك اليوم، ولقد بدا (الأستاذ فيصل) أنيقَ المظهر ورقيقَ المخبر، ومع إنّ ملبسَه كان بسيطاً، إلاّ انّه كان في غاية الأناقة:
كان يَضَعُ على رأسه (كُمّةً) بيضاءَ تتناسبُ في لونها مع (دشداشته) النّاصعة، وكان يَحتذي خُفَّيْنِ بُنّيّيْنِ صَقيليْنِ من نوع (الشّبلي)، أمّا مَخْبَرُهُ فكانَ يَنُمُّ على رفقٍ وتواضُعٍ، وصفاء نفسٍ، ورزانةٍ، وإخلاصٍ ومُثابَرَةٍ، وذكاءٍ وَحَصافَةٍ، وأخلاقٍ فاضلةٍ حميدة، وعندما انتهى الوالد من التّحدّث إليه، بادرني بسؤالٍ كان يَقْصُدُ منه تَحديدَ الصَّفِّ الدّراسيِّ الّذي كان يوشك أن يُلحقَني به، ثمّ اصطحبني ووالدي إلى مدير المدرسة (الأستاذ علي مصطفى القاضي)، وبعد حديثٍ وُدّيٍّ قصيرٍ وافقَ المديرُ على اقتراح (الأستاذ فيصل) بأن اُلْحَقَ مباشرةً بالصّفّ الأوّل، وذلك دون تضييع سنتين في الصّفّيْن التّمهيديّيْن: التّمهيدي ألف والتّمهيدي باء.
وقبل مغادرة مكتب المدير (الأستاذ علي القاضي)، أمْعَنْتُ النّظرَ في المُجَسَّمَيْن الضّخْمَيْن للفيل والكرة الأرضيّة، الّلذيْنِ كانا يَقبَعان على طاولة خاصّةٍ، واللّذيْن ظلاّ قابِعيْنِ في نفس المكان لسنين عديدةٍ كَسِمَةٍ مُميّزةٍ من سمات مكتب المدير.
وفيما توجّه والدي نحو السّيّارة, ذهبتُ بمَعيّة (الأستاذ فيصل) إلى الصّفّ الأوّل, الّذي كان عدد تلاميذه يوم التحاقي به يتجاوز الأربعين تلميذاً, منهم: إبراهيم محفوظ الهلالي, أحمد إبراهيم شيروك الزّدجالي, أحمد الزّبير, أحمد حسين الموسوي, أحمد محمّد ناصر الجابري, أمين وجيه صالح نزّال, جُلاب راي, حاجيه موسى, حبيب وهب, خالد طالب, داود أحمد, داود صدّيق, داود علي عمر, داود قاسم, زاهر رمزي مصطفى, زكريّا يحي الرّيامي, سالم عبداللّه الحرمي, سالم فايز, سالم ناصر الوهيبي, سالم هلال الخليلي, سعيد حمد الزّدجالي, سعيد علي القاضي, شفيق خميس, صالح علي العبيداني, طلال طارق, عبدالرّحمن حمود الطّائي, عبد الرّؤوف إسماعيل سويد, عبدالمنعم حسين حمزة العصفور, علي جان محمّد, علي عبيد, علي هاشم الطّائي, عيسى آتشوه, كامل حسين حمزة العصفور، محكوم كليب، محمود آتشوه، محمود لشكران, مطلوب سعيد, ناصر محمّد الوهيبي، هارون جان محمّد, يعقوب يوسف بلال…
وكان أربعة أو خمسة منّا يشتركون في الجلوس على مقعد خشبيّ طويل, فيما نُصبت في صدارةِ الصّفّ (سبّورةٌ) سوداءُ ضخمةٌ.
ومن توافق الصّدف أنّ (الأستاذ فيصل) الّذي كان أوّلَ مَنْ التقيتُ من الأساتذة, كان أيضاً مُرَبّي الصّفّ الأوّل الّذي بدأتُ التّعلّمَ الإبتدائيَّ فيه.
وإضافةً إلى مسؤوليّته عن صفّنا, كان يُفترضُ أن يُعلّمنا اللّغةَ العربيّةَ والتّاريخَ فحسب، إلاّ إنّ هِمّتَهُ العاليةَ جعلتهُ لا يكتفي بذلك, فأخذ يغرسُ في نفوسِنا الدّروسَ المتعلّقةَ بحبّ الوطن, ويُحلّقُ بأفكارنا الغَضّةِ إلى الرّحبات الأبهى والأسمى, ويوجّهنا إلى مكامن الجمال الأزهى والأسنى، وفي هذا الصّددِ لا أنسى إنّهُ كان مُلَقّنَنا الدّرْسَ الأوّلَ في الحريّة! وذلك عندما اختار لنا قصيدة (البلبل) الّتي مع إنّها كانت بسيطةً في مفرداتها, إلاّ أنّ معانيها الدّالةَ على الانعتاقِ والتّحرُّرِ كانت كبيرةً حقّاً, فوهجُها المتّقدُ لن يخبو أو يخفت أو يتوارى عن ذاكرتي ما حييت:
قد كان عندي بلبلٌ في قفصٍ من ذهبِ
وكان يشدو دائماً
بكلّ لحنٍ مُطرِبِ
ولم أكُنْ أمنعُه
من مأكَلٍ أو مَشْرَبِ
فَفَرّ منّي ونأى بدون أدنى سَبَبِ
وقال لي: “حُرّيّتي
لا تُشْتَرى بالذهَبِ”!!
وكيف ننسى الحروفَ الأولى الّتي ابتدأ في تلقينِنا إيّاها نطقاً وكتابةً، كحرف (الواو) مثلاً، الّذي كان يربطه ربْطاً جميلاً وموفّقاً ببداية كلمة “وردة”، إذْ لا أعتقد أنّ أيّاً من أولئك الصِّبْيَةِ الّذين ضمّهم ذلك الصّفّ، سوف تغيب عن باله صورة ذلك الحرف وذلك الرّبط السّاحر، فهل هناك أجملُ من وردةٍ زكيّةٍ يانعةٍ لربطها بحرف عطفٍ ومَعيّةٍ وجرٍّ واستئناف؟!
وأذكر إنّه كان يضع دائماً مصحفاً صغيرَ الحجم على طاولته، وعندما يجدنا مشغولين بنسْخ درسٍ مُعَيّنٍ على دفاترنا، بناءً على رغبته، كان يفتح ذلك المصحفَ الكريمَ ويتلو سرّاً ما يتيسّرُ له من آيات اللّه البيّنات.
كان (الأستاذ فيصل) من الأساتذة السّابقين زمانَهم من حيث إلمامُهُ بالطّرائق الحديثة للتّدريس، والّتي ما زالتْ معتَمَدَةً حتّى أيّامنا هذه, فلم يكن ليكتفي بتقدير المجتهد من التّلاميذ, بل إنّه كان أيضاً يُساعدُ المتخلّفَ والمُهْملَ، ويبعثُ فيهِما الأملَ لمحاولة النَجاح, وعدم الرّكون إلى اليأسِ والقُنوط.
ومن أساليبه المتطوّرة عدمُ مخاطبته التّلاميذَ الّذين كانوا يجلسون في جهةٍ مُعيّنة من الصّفّ فحسب, بل إنّهُ كان يوزّعُ اهتمامَهُ على التّلاميذ في كلّ أرجاء الصّفّ، فلقد كان بسجيّته عادلاً ومنصفاً جدّاً في تعامله مع التّلاميذ، وهو طبعٌ لازمهُ لاحقاً طوالَ حياتهِ في تعامُلِهِ الرّاقي مع النّاس كافّةً، ولقد لاحظت رسوخ تلك العادة الطّيّبة فيه حتّى بعد مُضيّ سنين عديدة، إذْ جعلني اللّه تعالى ألتقيه من جديد بَعْدَ رَدَح
ٍ من الزّمن، فتشرّفتُ بمرافقته في سفرات عديدة إلى مختلف القارّات، عندما كان وزيراً للتّراث القوميّ والثّقافة، إذ كنتُ اغطّي للتلفزيون العُمانيّ معظم المناسبات، إن لم تكن كلّها، التي كان يوكل إليه القيامَ بها، كالاستقبال الكبير الّذي أقيم للسّفينة صُحار عند وصولها ميناء (كانتون) بجمهورية الصّين الشّعبيّة، أو الاحتفالات الرّسميّة ببدء إقامة المعارض العُمانيّة، سواء بمبنى (سميثسونيان) بالعاصمة الأميريكيّة واشنطن، أوبالعاصمة الأردنيّة عَمّان، أوبالعاصمة الإيطاليّة روما، أو بالعاصمة البرتغاليّة لشبونة، أو بالعاصمة الألمانيّة بون (في ذلك الوقت)، أو بمدينة لاهاي الهولنديّة، أو في مناسباتٍ وزياراتٍ رسميّةٍ إلى مدن العالم الأخرى، كبندر سيري بيجاوان عاصمة سلطنة بروناي وغيرها…