أبجد

على صعيد عرفة

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

 

على صعيد عرفة:

صورة والدتي تتحداني!

سعدية مفرح

 

اليوم عرفة.. أحد أجمل محطاتي في رحلتي إلى الحج قبل أعوام، ولأنني نشرت انطباعاتي حول ذلك اليوم، فقد أصبحت أحب الرجوع لتلك الانطباعات كلما عنّ لي أن أتذكر التفاصيل وأعيشها من جديد.. في نفس اليوم، لأعيد نشر كل أو بعض ما كتبت، ويبدو أنها أصبحت عادة لمن لا تحب العادات في الكتابة والنشر، لكنه الاستثناء الذي أكرره الآن ولعلي أكرره دائما:

 

“الحج عرفة.. وعرفة كلها موقف. وها نحن في موقف من مواقفها المكانية والزمانية أيضا.. في بقعة من أرضها الواسعة المزدحمة بالحجيج والخيام.. اكتفيت بتلك البقعة التي تبدو بعيدة عن مركز الجبل استجابة لتعليمات الحملة واقتناعا بالرأي الفقهي الذي يقول أن عرفة كلها موقف مع بقاء بعض الغصة التي تكثفت في قلبي لعدم بلوغي ذلك المركز العالي والذي كنت أحلم ببلوغه منذ أن نويت الحج. كانت صورة والدتي رحمها الله وهي بالقرب من ذلك المكان قبل ثلاثة عقود من الزمان تقريبا ما زالت تسكن ذاكرتي مؤطرة ببروازها الصغير الأنيق وهي تحتل ركنا مميزا من أركان مكتبتي.. والدتي رحمها الله تقف وهي تضع سجادة الصلاة على ذراعها وتنظر للكاميرا بنظرات خجول.. ظلت تعتز بتلك الصورة النادرة الباقية من زمن لم يكن ليحتفي كثيرا بالصور من على جبل عرفة، حتى رحيلها.. وظللت أحلم بصورة مثلها تماما لأضعها في برواز أخر بجانبها.

 

كانت تلك الصورة التي أعرف أن أخي المرافق لها في حجتها تلك هو من التقطها بكاميراه الخاصة تتحداني كلما وقعت عليها عيناي.. وكنت استجيب لذلك التحدي بما يشبه اليقين على تحقيق الحلم، لكن الحلم تبخر وتحول الى غصة صغيرة متكثفة منذ أن أفتى شيخنا الجليل بعدم ضرورة ذلك في ظروف زحام غير مأمون تماما، وانسجاما مع متطلبات وتعليمات رحلة جماعية كرحلتي.. ثم أن صوت ذلك الرجل العابر الذي مر بي مهمهماً بما يشبه النصيحة لأن ننشغل بالعبادة بدلا من الانشغال بالتصوير ساهم في خفوت حدة تلك الرغبة المتحدية وتحويلها الى سنوات لاحقة وزيارات مقبلة إن شاء الله بدأت أحلم بها قبل أن أتم زيارتي الراهنة.

 

كان لي في صلاتي الظهر والعصر التي أديناها جمعا وقصرا واستمعنا خلالهما إلى خطبة الجمعة من مسجد نمرة البعيد من خلال مكبرات الصوت وسماعات الإذاعة بعض التعويض الخفي، فهنا.. في هذا المكان تحديدا، وفي مثل هذا اليوم بالذات، نزلت تلك الآية القرآنية العظيمة والتي تلاها نبينا صلى الله عليه وسلم لتصير الختام الأمثل للرسالة النهائية: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً”.. وها أنذا أكرر تلاوة تلك الآية في صلاتي ودعائي أيضا راضية مرضية بهذا الدين العظيم؛ ربِ تقبل حجتي وأتمها وأرض بها عنا كما أكملت لنا ديننا وأتممت علينا نعمتك ورضيت لنا الإسلام دينا.. اللهم آمين.

 

تميل شمس عرفة المزدهية نحو الغرب والغروب، فنلملم أطراف رحلتنا استعدادا للمغادرة قبيل مغيب الشمس النهائي إفاضةً الى مزدلفة.. ومزدلفة كلها موقف أيضا.

 

الطريق قصير الى مزدلفة في حسابات التوقيت العادي، لكنه طويل جدا بالنسبة للحجاج الذين يقطعونه عبر الحافلات والسيارات التي لا تكاد تمشي من شدة الزحام.. ومع هذا لم أشعر بأي فراغ في هذا الوقت الطويل.. كانت الأغلبية ممن معي من الحجاج قد استغلوا الوقت في قراءة القرآن وسط أصوات التلبية المهيبة الآتية من كل جانب.. واستغليته معهم في القراءة أحيانا، وفي مراقبة ما وراء نافذة الحافلة أحيانا أخرى.. ولم تنته ملاحظاتي عند حد.كنت ألاحظ كل شيء بدءا مما هو مكتوب على جوانب بعض الحافلات وانتهاء بنوعية ملابس النساء المختلفة، في ظل توحد ملابس الإحرام الرجالية تقريبا، مرورا بتلويحات لم أتورع عن تبادلاها مع حجاج أتوا من تلك البلاد البعيدة بابتسامات لم ينل منها التعب ولا الزحام.

 

عندما وصلنا الى أرض مزدلفة أخيرا كانت الساعة تشير إلى العاشرة مساء.. أي أننا قضينا في الحافلة التي لا تكاد تسير ساعات طوال أكلنا وشربنا وقرأنا القرآن وضحكنا وتحادثنا فيها وراقبنا الطريق وشكى بعضنا لبعضنا وانفتقت بعض الجروح من بين الحكايات العابرة التي قد يتبادلها الغرباء على أي طريق، وانثالت الذكريات أيضا ثم حبسنا بعض اللقطات التي توسمنا أنها ستكون زادا لذكريات مقبلة في بعض الصور الفوتوغرافية.. ومر الوقت.

 

Your Page Title