تاريخ عمان

رحلة أول سلطان عربي في التاريخ تطأ قدمه بريطانيا سنة 1875م – الجزء الثاني-

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير – تاريخ عمان

في الجزء الأول من تفاصيل رحلة السلطان برغش أول حاكم عربي يصل بزيارة إلى إنجلترا، وتحديدا لزيارة الملكة، والذي أنهيناه بوصوله إلى لندن، وتحديدا جسر(ويستمنستر)، وشكر فيها السلطان كلّ من رحّب به ، لا سيما شكره للوفد، الذي بعثت به ملكة بريطانيا، وهو يقول لهم ” بارك الله في جلالة الملكة، وأدام عزها بالجد والإقبال “.

الجزء الأول من تفاصيل رحلة السلطان برغش أول حاكم عربي يصل بزيارة إلى إنجلترا

وما أن نطق هذه الكلمات حتى ثارت عاصفة شديدة فوق المدينة، وهطل مطر غزير كادت تطفح الأزقة من فيض المياه، وفي هذه الأثناء انتقل السلطان من السفينة للبر، وحشمه يتبعونه، وبرفقة السيد (بورك) ، وحضرة الفقيه (باجر) ، والسيد ( دواز) حتى وصلوا إلى الدرج الموصول بجسر ويستمنستر الذي ضجّ بالشعب الإنجليزي الذي رحب بكل حرارة بالسلطان العربي الذي أتاهم زائرا مع عزف للموسيقى، والجنود مصطفين في سلامه، حتى وصل تك العربيات التي تجرها الخيول، فركبوا فيها، وسارت بهم إلى المنزل المسمى ( ألكزاندرا هوتل ) الذي أعدّته ملكة بريطانيا للسلطان برغش، ويعتبر من أفخم، وأشهر منازل لندن، ويتوسط منازل أعيان الأمة، والأمراء، والشرفاء، وكان واسعا، وعظيما، وبجانبه بستان بلندن يعرف ( بهيد بارك ) ، وكان وصول السلطان إلى هذا المنزل في 11يونيو سنة 1875م .

فيما نشرته جريدة(التايمز) عن السلطان برغش وقت وصوله كالتالي:

” من جملة سلاطين المشرق، وأمرائهم الذين شرّفوا بلادنا بحضورهم السيد برغش بن سعيد سلطان زنجبار ، فهو رجل ذو هيبة، ووقار تلوح على هيئته سمات البشاشة، واللطف، وهو يعتبر أول أمير عربي خاض البحار، وأتى يريد زيارة جزيرتنا هذه، فهو مستحق إكرامنا لأجل صفاته الحميدة، ولأجل غايات سياسية لا بد لأمة الإنكليز من مراعاتها ، فهذا الأمير العربي يتّصف بمزايا حميدة، وينحدر من نسل عربي شريف قديم النسب، والحسب، وقد قصد بلادنا يريد الارتباط بودنا، فمن الواجب أن نمد إليه يمين الوداد، فقد قام حق القيام بكل ما وعد به من إبطال تجارة الرقيق، وتحمّل من خلال ذلك خسائر باهظة، وعرّض نفسه، وملكه لأخطار عظيمة من جراء إبطال هذه التجارة الذميمة مثلما شهد له بذلك السر بارتل فراير.

لو أن مقام أمير من الأمراء موقوفا على سعة أملاكه، وامتداد سلطته إلى مسافة بعيدة من الأميال الجغرافية، لكان مقام السيد برغش مقام السلطان العثماني، أو مقام شاه إيران، أو خديو مصر، فملك السلطان برغش يمتد إلى عرض 12 درجة من العرض الجغرافي، وذلك عبارة عن 660 ميلا، وأما بالطول الجغرافي، فلا يعرف حدا لسلطته ، ومنذ 40 سنة قد انفتحت أبواب تجارة واسعة في أملاكه الأفريقية الشرقية، وفاض الثراء في أرضه، وعن قريب سيضحى ملكه من أعظم ممالك الشرق لأنه الطريق الوحيد لمرور القوافل للتجارة مع أواسط قارة أفريقية العظيمة .

أما باعتبار صفاته الطبيعية الخارجية، فهو رجل مهيب ذو عقل حاذق يحبّ مراعاة كل ما يشاهد، ويدقّق في حقائقه بعين البحث، والإدراك، وله إطلاع واف في العلوم العربية، وخلع عنه رداء التعصب، وطرق سبيل العدالة، والتمدن في مملكته.

 

زيارة أصحاب الجرائد لسعادة السلطان برغش:

 

قال مراسل ( الديلي تلغراف):

” وددت لو أن تمكنني الفرصة من المثول بين يدي حضرة السيد برغش لأتشرف بمشاهدته، وأستقصي من سعادته عن أمور كثيرة في أحوال أفريقية لأنني عضوا من أعضاء الجمعية الجغرافية المملوكية، فاستعنت بصديقي الخاص (بارتل فرير) وصيقه حضرة (القس باجر الفقيه) فقصدت قصر سعادته في 11 جوان (حزيران)، فقابلني الخدم بغاية العز والإكرام، وأدخلوني في قاعة فسيحة مزينة بأثاث فاخر ملوكي، فجلست أنتظر سعادة السلطان.

وبعد بضع دقائق دخل سعادته بهيبة ووقار، فاستقبلنا بلطف، وبشاشة، ثم جلس على كرسي منصوبا له، وأمرنا بالجلوس، فاستأذنت من سعادته بالتكلم بين يديه فأومأ لي أن أقول ما بدا لي فقلت:

كيف رأيت أيها السلطان هذه البلاد؟ وهل طابت نفس سعادتك بمناظر مدينة لندن؟

فقال مبتسما: وأي نفس لا تطيب بحسن مناظر هذه الحاضرة الجميلة، وبحدائقها النضرة ، وبقصورها الباذخة، وشوارعها المتسعة ، وبجمال أهلها البديع، ولطف أخلاقهم المأنوسة؟ فإني قد أضحيت ممنونا غاية الامتنان للإمة الإنجليزية لأجل ما أبدته من العز والإكرام، واللطف، فبارك الله فيها، وأيّد دولتها طوال الزمان “.

فقلت له: إن ما قدمته الأمة والدولة البريطانية في حق سعادتك من الإكرام هو بعض من واجباتها، وفروضها مما هي مدينة لسعاتك لأجل إمدادك اياها حقّ الإمداد في إبطال تجارة الرقيق من أفريقية، وإن جرائد لندن كلها قد حثّت الدولة والأمة البريطانية على تقديم الإكرام، والواجب لسعادة الأمير، والسيد النبيل الذي زادها شرفا بزيارة بلادها.

فقال السلطان: بارك الله في بلادكم السعيدة، وعمّر دياركم الفريدة ، فإني رأيت في هذه الحاضرة العظيمة منازل كبيرة جدا، وجميلة البناء كأنها قصور ملوك أعزاء ، وقد قيل لي إنها منازل قد أعدّها أصحاب الخير منها للفقراء، والبائسين ، ومنها مستشفيات للمرضى، والمقعدين ، فطابت بذلك نفسي، واتّسع صدري، فهذه حسنة كبيرة من الله ، ثم لما جلت شوارع هذه المدينة العظيمة، وطفت ضواحيها الجميلة، ورأيت قصورها الباذخة، ودرت بين جنائنها، وحدائقها النضرة تعجّبت من كبرها، واتساعها، وقلت حقا هذه المدينة أعظم مدن الدنيا كلها كبرا، وأكثرها سكانا، وأحسنها خلقا، وأجملها منظرا .

قلت: وهل تحسب الإنكليز أجمل الناس حقا، وأحسنهم منظرا؟

فقال السلطان: الناس طرا من نسل حضرة أبينا آدم عليه السلام، وإنما اختلاف الأراضي التي سكنها البشر، واختلاف المعيشة، والأقاليم قد أوجبت الاختلاف في هيئاتهم، وأخلاقهم، وهذا أمر الله يجريه في خلقه، وقد قدر على كل خليقته أمرا ولا بد من تنفيذه.

 

قلت: أصبت أيها السلطان، بحسن رأيك، وعسى أن تصبح بلادك يوما من الأيام مثل لندن، وأحسن منها، وقولي هذا لا يخامره شكّ، فإن بلادك السعيدة لا ينوبها ما ينوب لا من كثافة الضباب، وسواد الدخان الحالك “.

 

فتبسم السيد وقال: ” إن شاء الله الحق سبحانه وتعالى يستجيب دعاءك “.

 

ثم عرضت بين يدي السيد برغش بعض الأسئلة عن مستر (استانلي – وهو هانري مورتن) الأمريكاني السايح المشهور، وعن رئيس النخاسين المدعو (ميرامبو) الذي كان يحاول منع إبطال تجارة الرقيق في أفريقية ،، فاستحسن السيد سؤالي وقال :

” قد بذلت بطيبة الخاطر في مساعدة مستر استانلي، وجميع الإنكليز الذين ساحوا في أفريقية، وأود لو أن يرجع مستر استانلي مارا ببلادي، وأؤمل أن يكون سعيه مقرونا بالنجاح، أمام رئيس النخاسين المدعو ميرامبو، فقد انكسرت شوكته الآن بهمة ملك أوغندا ، وقد أرسل سفيرا إلى زنجبار يطلب العفو عما فرط منه في الماضي، ويعد بصرف همته إلى إبطال تجارة الرقيق ما استطاع “.

فقلت : ليس بخاف على الدولة البريطانية ما قاسته نفس سعادتك من العناء، والأخطار في إبطال تجارة الرقيق، وإدخال الإصلاح في بلادك السعيدة ، ولهذا قد أضحت الدولة ممنونة لسعادتك غاية الإمتنان.

فقال السيد : إني قاسيت مشقات باهظة، وعرّضت نفسي لأخطار مهولة بإدخال الإصلاح الأوربي في قوم لم يعتادوا عليه، وهذا يجري في كل أمة سواء كانت متمدنة تمام التمدّن، أو غير متمدنة، فإن تغيّر عوائد القوم من أصعب الأمور التي يجريها رجال الإصلاح ولا بد لكل مصلح من أن يتذرع بالجرأة، ويقتحم الأخطار، ومن لا يقتحم الأهوال لا ينل الآمال”.

فقلت : إن من زينة هذه الحكمة جدير بأن يستولي على رقاب العباد ويسلّح البلاد .

فقال السلطان برغش : حبذا قولك ، ولكن دون ذلك أهوال، والأقوال ليست كالأفعال ، ومجرد الكلام لا يقوم بأعباء الأمور المهمة، فأنتم معشر الإنكليز تكتفون بالثناء علي من أجل ما قاسيته من الأخطار، وخسرته من الأموال بسبب إبطال تجارة الرقيق، وأنا أعاني المشقات ، وأخسر الأموال، وأقتحم الأخطار ، ولكن تقول العرب “من يكتف بالشفقة على المسكين ليس كمن يمد إليه يد المساعدة” ، فإن بين الحالتين بونا عظيما .

فقلت: صدقت أيها السيد الكريم ، ونحن معشر الإنكليز ندرك حقّ الإدراك عظم هذه المخاطرة كلها ، ولا بدّ لنا من بذل المال، والإقتدار في سبيل الخير، وإدخال الفلاح في بلاد أفريقية .

فقال السلطان: بارك الله فيكم، وعظم أجركم في الدنيا، والآخرة.

 

وللرحلة بقية نكملها في تفاصيل زيارة السلطان برغش للبرنس (أف ولس) ولي العهد..

 

Your Page Title