عبدالرزاق الربيعي
بعد مرور أسبوعين على رحيل الشاعر السويدي توماس ترانسترومر الحائز على جائزة نوبل للآداب في العام2011 غيّب الموت الأديب الألماني غونتر غراس الحائز على جائزة نوبل عام1999م عن عمر ناهز السابعة والثمانين في إحدى عيادات مدينة لويبيك الألمانية،
وبهذا الخبر الذي أعلنته دار “شتيدل” ناشرة أعماله، نكون قد ودّعنا كاتبا كبيرا الذين عُرف مواقفه السياسية التي أثارت جدلا في الأوساط الغربية كونه متعاطفا مع قضايا العرب ،فهو من المناصرين لقضية فلسطين، وكان ضد الحرب على العراق عام2003م وزار اليمن أكثر من مرّة اجتمعت به خلال إحداها .
وكنّا في “أثير” قد أجرينا اتصالات مع الشاعرة العراقية أمل الجبوري التي كانت على صلة به من أجل استضافته في “مسقط” لكنها أخبرتنا إنّ حالته الصحيّة لا تسمح له بالسفر، وبقينا بانتظار تحسن يطرأ لتلبيته الدعوة لكن الأجل كان بالمرصاد ليخطف كاتبا كبيرا كتب الرواية ،والمسرحيّة والشعر،ومارس إلى جانب ذلك الرسم ،مخلّفا الكثير من الأعمال أبرزها : طبل الصفيح، القط والفأر، سنوات الكلاب. وفي مجال المسرح له: الطهاة الأشرار، والفيضان .
كان لقائي بغراس خلال مؤتمر الرواية العربية الذي أقيم في إطار اختيارصنعاء عاصمة للثقافة العربية لعام 2004م. . وجرى افتتاح مركز غراس للعمارة الطينية في قصر السلام بحضرموت، ليكون مدرسة لتعليم البناء بالطين على الطريقة التقليدية السائدة في حضرموت ،وسار معنا في جولة شملت الاطلاع على المعالم الأثرية والعمرانية لمدينة شبام القديمة شاهدنا خلالها بعض القصور الطينية في مدينة تريم ومعالمها الأثرية. وخلال الجولة زار غراس جزيرة سقطرى وهناك التقطنا معه العديد من الصور في طرقها الجبلية الوعرة ووضع تخطيطات أولية لبعض المناظر التي مر بها، ومما دوّنته من ملاحظات حول تلك الرحلة :في الوقت الذي كان التعب قد بلغ منا مبلغه كان غونتر غراس في منتهى الحيوية والنشاط، وكان يوقف القافلة ليتأمل مشهداً ثم يعود إلى السيارة، وعندما شاهد عمالاً يعبدون الطرق انزعج لدرجة أنه عندما التقى الرئيس علي عبدالله صالح طلب منه عدم مواصلة تعبيد الطريق لكي لا تُمس بكارة الطبيعة بسوء! ! وفي جلسات الملتقى التي شملت عدة محاور هي (الرواية والسينما) و(الرواية والمكان) و(الرواية والزمان) و(الرواية والشعر) و(أدب الحرب) كان جالساً إلى جانب الدكتور عبد العزيز المقالح ورئيس الجلسة على المنصة، مشاركاً في التعقيب على المتحدثين، وكانت اَراؤه تدل على متابعة دقيقة لكل القضايا الفنية في الكتابة الجديدة. وفي الأمسية الشعرية التي أقامتها سفارة جمهورية ألمانيا بالتعاون مع مركز الدراسات والبحوث اليمني تألق فقرأ نصوصاً من ديوانه (الرقصات الأخيرة)، حيث قامت بالترجمة الشاعرة العراقية أمل الجبوري. . وعندما انتهى من القصائد التي أعدها للأمسية قرأ نصاً جديداً لم يكن قد ترجم بعد، وحينما انتهى من قراءته غنت المطربة اللبنانية جاهدة وهبة قصيدته (لا تلتفتوا إلى الوراء) التي تقول كلماتها:
لا تمض إلى الغابة
ففي الغابة غابة
ومن يمضي إلى الغابة
بحثاً عن الأشجار
لن يُبحث بعدها عنه
في الغابة
دع الخوف
الخوف يعبق بخوف
ومن يعبق بخوف يُشم
لا تبن لك بيتاً
وإلا صرت بيتاً
ومن يقبع في البيت
سيكون بانتظار سائر المتأخرين
ليفتح لهم
لا تكتب رسالة
ستؤول الرسالة إلى الأرشيف
ومن يكتب رسالة
يوقع على بقاياه”
بعد سنوات غنّت المطربة جاهدة وهبة هذه الأغنية في حديقة القرم الطبيعية خلال إحدى دورات مهرجان مسقط ، ومن الملفت للنظر أن الجمهور طلب منها إعادتها أكثر من مرة رغم إنّها نص مترجم ، وهذا دليل على أنّ الفكرة التي أنتجها الشاعر وصلت إلى الجمهور.
وعودة على الأمسية الصنعانيّة ففي نهايتها أهدى غونترغراس عدداً من لوحاته إلى الفنانة (جاهدة وهبة) وفرقتها الموسيقية. ومما أذكر أن الروائي التونسي حسن بن عثمان طلب منا مشاركته في كتابة رسالة تهنئة لصديقه الشاعر المنصف المزغني بمناسبة عيد ميلاده ففعلنا ،وحين علم غونتر غراس بذلك بادر للمشاركة في توجيه تهنئة للشاعرالذي قطع نصف قرن من عمره ليؤكد له أنه شاب في السبعين! وكان غراس يشارك في الرقصات الشعبية ،وفي كل ذلك يعبر عن تواضعه الذي يليق بشاعر وكاتب كبير! .
وكم كان مؤلما أن يرحل غونترغراس ،وقذائف “الأخوة الأعداء” مستمرة في السقوط على أرض اليمن تلك التي اجتمعنا فوقها ،وربّما طالت مركز غراس للعمارة الطينية بحضرموت ،الذي كم كان سعيدا به لأنه حمل اسمه وهذا لم يحصل حتى في بلده ألمانيا،كما صرّح مؤكّدا إنه سيكون رمزا عظيما للتفاهم المتبادل بين الألمان والعرب ، واليوم يرحل غونترغراس ونحن أحوج مانكون فيها إلى تفاهم مع أنفسنا في زمن كثر به قرع “طبول الصفيح ” .