أثير- المكرم د. اسماعيل الأغبري
أثير- المكرم د. اسماعيل الأغبري
تطورت وسائل الإعلام في عصرنا الحديث بشكل متسارع في الشكل والمضمون والرسالة والأهداف.
وهي سلاح فاعل مؤثر سلبا أو إيجابا في صياغة الأمم والشعوب وصناعة الرأي العام، وذلك حسب توجيه أصحابها لها للبناء السياسي والاجتماعي والثقافي، أو تسخيرها لهدم الدول بنشر الفتن والإشاعات عن الأفراد والأمم والدول، تصفية لحسابات أو رغبة في تحقيق انتقام أو طمعا في خلخلة دول، وهذا ما يسمى بالحرب الكلامية أو النفسية وإن توسعنا جاز لنا القول بالحرب الباردة.
عرف العرب الإعلام في جاهليتهم ومطلع شمس الإسلام، وكان الشعر وسيلتهم الإعلامية يبث من خلالها الشاعر الحر الطليق ما يتصوره من محاسن، وما يظنه من محامد، فيعبر عن ذلك من خلال أغراض الشعر كالفخر والمدح.
قد يمدح أو يفاخر بإنجاز بني جلدته أو قومه، أو يمدح حاكما أنجز أمرا يستحق الإشادة حسب تصوره، وقد يندفع لسان الشاعر قدحا وذما لقوم آخرين لخصومة بين قومه وقوم آخرين، أو قد يمدح صديقا أو يذم له مخالفا، ولا يخلو ذلك المدح أو الذم من دخول العامل الشخصي للشاعر.
وقد يكون هناك شعراء مرتزقة يتم استئجارهم من ممالك ومشايخ قبائل ذلك الزمان، وعلى قدر الدفع وفاتورة أجرة الكلمة تندلع وسيلة إعلام ذلك الزمان وهو الشعر، فيتمكن الشاعر من التحريش بين حيين وإشعال نار بين قبيلتين أو يعمد إلى تلميع صورة شخوص ذلك الزمان حسب ما يتم الدفع له.
ولم يكن مستغربا أن تجد شاعرا في ذلك الزمان يمتدح قبيلة أو صاحب عرش فيصفه بصفات التعظيم، ثم ذاته بعد فترة ينقلب عليه ويمدح من كان قد هجاه بالأمس، وهذا التغير بناء على حجم وقيمة الفاتورة المصروفة له، أي تندلع اللسان بناء على كمية اللقمة المدفوعة إليه.
من خلال كلمة تستعر نار الفتن بين قبائل ذلك الزمان، ومن خلال كلمة طيبة أيضا يمكن رتق ما انفتق ووصل ما انقطع وعودة جريان المياه.
في عصرنا الحالي تعددت وسائل الإعلام وتعددت أهدافها، وسائل الإعلام التقليدية والجديدة من وسائل التواصل الاجتماعي غدت لها الصدارة ويكفيها أنها السلطة الرابعة.
وسائل الإعلام التقليدية من إذاعة وتلفزة لم تمت رغم مزاحمة الوسائل الإعلامية الجديدة، فلا زال للصحافة دور كبير، إما نقلا لواقعة بصدق، أو ترويجا لكذب متعمد.
التلفزيون يبدو ورغم الوسائل الجديدة لكنه الوسيلة القديمة الجديدة التي لم تزل لها الصدى الواسع، لأنه صوت وصورة، وفي كل مجمع ومنتدى وملتقى، ويشاهده كل صغير وكبير، فهو وسيلة إعلامية لا تحتاج إلى انتساب أو إدخال معلومات أو كتابة بريد إلكتروني وعناوين.
وسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر والفيس بوك والوتس آب وغيرها كثير أسلحة إعلامية ذو حدين، يمكن أن تكون وسائل بناء أمة وترسيخ استقرار بلدان وتقوية نسيج اجتماعي وتعميق خطاب جامع للأمة الإسلامية مهما تفاوتت قومية وفكرا ودولا، وترسيخ خطاب إنساني من خلاله يتم احترام كافة البشر بغض النظر عن الدين والجنس.
وقد تكون تلك الوسائل الإعلامية التقليدية والجديدة معاول هدم وعامل تخريب علاقات بين دول، ومطارق تقطيع للنسيج الاجتماعي وأبواق فتنة، ورائدة نشر إشاعات كاذبة تمس شخصيات سياسية أو اجتماعية، أو رائدة إشاعات تمس علاقات دول أو دول لها استقلالها السياسي وإرثها الحضاري الذي يميزها عن دول ذات جدب ومحل في هذا الشأن.
وهذه الوسائل الإعلامية التي تمارس تلك الإشاعات وإن ظهرت أنها فردية لكنها في الحقيقة موجهة البوصلة، مطعومة الفم مسيّرة المنهج، لذلك تندلع لسانها على شخصيات سياسية أو على دول بغية لي عنق تلك الدول أو إلحاقها بالقطيع لتقول سمعنا وأطعنا.
إن العالم العربي يسبح في أمواج هادرة من الإعلام التقليدي والتقني الحديث الحكومي والخاص ولكن كيف يسير أكثره؟
من المؤسف لم يعد للقلم ذلك المداد الصادق، ولم يعد للسان تلك البلاغة من قول الحقيقة، بل تحول الإعلام في عدد من دول عالم العرب إلى وسيلة من وسائل الهجاء ومجانية الصواب وأيسر طريق لتصفية حسابات الدول بسبب خلافات الزعامات.
إذا وافقت دولة على منهج دولة أخرى وسلمت سيادتها لتلك الدولة، فإن البوق الإعلامي سيسبح بحمدها، ويقدس لها، ويعدّها دولة نموذجية، وزعيمها مثال للديمقراطية، وهو أب حنون وزعيم لا سابق له، ولو كان ذا بطش شديد وقهر للناس بالحديد.
إذا اختلفت ذات الدولة مع دولة أخرى رغبة منها في تحقيق السيادة السياسية والاستقلال الاقتصادي، وتباينت نظرتها في الأحداث السياسية والاقتصادية، فإن الإعلام سينطلق عليها كموج هادر، ذما بزعامة تلك الدولة، وسيتم حشد الدين والمنابر لتشويه صورة ذلك الزعيم، الذي كان من قبل صديقا حميما، والذي اعتبرته من قبل ذات وسائل الإعلام بأنه عضد وساعد وحامي الحمى، ومن الأمثلة على ذلك ما كان مع الرئيس العراقي صدام حسين، وما جرى حاليا مع أحد زعماء بلاد الشام، وما وقع أيضا مع أحد زعماء شمال إفريقيا السابقين.
مما يؤسف له أن ينخرط إعلام العالم العربي بجميع أنواعه إلى هذا المستنقع، لا تحكمه قواعد ولا ميثاق شرف، إلا إعلام بعض الدول العربية التي أبت قيادتها الدخول في هذا المنعطف والانحدار البغيض.
صارت دول عربية تنطلق من قاعدة من لم يكن معي ويذب في سياستي ويرى ما أرى، فهو ضدي ولو تبين من خلال الواقع أن هذه الدول التي استقلت في رأيها صائبة مئة بالمئة.
غدا تشويه الحقائق والتلاعب بالصور في وسائل الإعلام أمرا طبيعيا وينخرط في ذلك، حتى من يظن أنه قامة إعلامية وركن ثقافي وصرح فكري، وقد كشفت أحداث بعض ما وقع لبعض دول الجزيرة العربية حقيقة طبقة المثقفين والمفكرين والإعلاميين، بل وأهل التدين وأصحاب المنابر إلا من رحم الله.
طبعا هناك إعلام هادئ بعيد عن إثارة الضغائن، يتجنب كل ما يشق صف الأمة العربية ولا يحاول تضخيم الأحداث، ولا يستخدم عبارات شاذة عن العرف، وهذا الإعلام هو انعكاس لما عليه قيادة تلك البلاد من توجهات إيجابية تقضي بعدم صب الزيت على النار.
انحدر بعض الإعلام العربي فصار يبعث ما يشبه حرب داحس والغبراء، ويحرض على خوض حرب البسوس في نسختها الثانية بين العرب أنفسهم.
انحدر هذا النوع من الإعلام إلى مستوى آخر، وهو محاولة إشعال حرب ضروس على أسس قومية عربية فارسية كردية أمازيغية.
إعلام آخر له لباس ديني، يعمل على إذكاء ما يشبه الحرب على أسس دينية وطائفية بين المسلمين أنفسهم، ويعمل على إذكاء نار حرب دينية بين المسلمين وغيرهم.
إن هذا الإعلام هو إعلام مسيس مسخر، وإن بدا أنه حر مستقل، والعجيب إنك تجد ذات الإعلامي والصحفي كان بالأمس يمتدح دولة من الدول وزعيما من الزعامات، ثم صار ذلك الإعلامي والصحفي يذم تلك الدولة والزعيم ويحرض عليهما.
و هو في ذلك يشبه بعض رجال الدين الذين تجدهم بالأمس مع تلك الدولة وزعيمها، ثم تراهم اليوم على تلك الدولة وزعيمها حتى يبلغ التكفير مبلغه، ويتم نشر هذا الموقف وذلك على ذات الوسيلة الإعلامية والفارق فقط في زمن النشر.
الإعلام غير النزيه، قد يعتمد على القص واللصق وتحريف الخبر، ويعتمد الإعلام غير المنصف على نشر الإشاعات، لذلك ينبغي على الشعوب أن تكون يقظة، فلا تنجر خلف الإشاعات والفبركات الإعلامية.
وكما أن الكلمة تبني فهي أيضا تهدم والذي يحددها هو الغاية منها.