فيصل بن سعيد العلوي
حينما اتخذت شارع الوزارات بالخوير ممشى لي بشكل دائم طوال الأسبوع .. لم أكن أعلم أن ثمة حنينا يدفعني نحو الذكريات كلما مررت ذهابا وإيابا على وزارة الداخلية .. حيث أتذكر جزءا من طفولتي مع والدي وهو يصحبني إلى المبنى القديم الذي أتذكر كل تفاصيل المساحات والمكاتب ومواقع الطابعات وآلات النسخ والفاكسات التي كانت تشكل لي تجربة جديدة أشاهدها لأول مرة في حياتي وانتهاء بالمياه التي كانت تسبح في أجزاء من المبنى … والدي الإنسان العظيم الذي كافح في هذه الحياة من أجلنا علمنا الكثير من مبادئ الحياة رغم الظروف القاسية التي عاشها هو ونحن منذ طفولتنا حتى كبرنا وفتح الله لنا بابا جميلا أراده لنا هكذا بسيطا نسلك من خلاله مسار الحياة وبساطتها دون غلو ولا استهتار ولا كبر ولا إسراف.
لم يحدث قط أن توانى والدي في تحقيق رغبة لي بل كان يشعرني بأهمية كل ما أطمح إليه ويشاركني حلم تحقيقه ، ولم أشعر في يوم من الأيام أن والدي ـ مع بساطة راتبه ـ اعتاز لسد حاجة أسرة كان يعيلها تتكون من أكثر من اثني عشر ( ١٢) فردا .. رغم الظروف القاسية التي كان يعانيها ولم نكن نشعر بها آنذاك.
مر والدي بتجارب مختلفة في حياته العملية بوزارة الداخلية القاسية منها والمريحة .. لكني في المقابل لم ألحظ والدي متذمرا من شيء قط بل على العكس تماما حيث كان يتحدث عن المكان بسعادة ومسؤولية لدرجة أنني كنت أعتقد أن والدي مسؤول كبير رغم أنه لم يكن يمتلك حتى كرسيا في الوزارة … وكان أمينا لدرجة أنه يفرض علينا حراسة سيارة الوزارة (التي كان يتطلب عمله في بعض الأحيان نقل حاجيات جديدة وإعادة حاجيات مستعملة من ولاية إلى أخرى لمكاتب الولاة) عندما ينام قليلا وقت الظهر ، ويسهر هو بعض الليل حتى يتأكد من كونها بأمان خوفا من سرقة شيء من شاحنة حكومية مكشوفة تحمل في بعض الأحيان الكترونيات وأدوات كهربائية أو أثاثا مثلا .. كنت أشعر أنه ما من أحد في هذا الكون كله يشبه والدي في أمانته وإخلاصه للعمل ، وأيقنت فيما بعد أنه كذلك فعلا دون مبالغة.
في الصيف حينما كنت طالبا أطلب من والدي الذهاب معه إلى مسقط لزيارة ( أوكي سنتر ) للعب في ألعاب السندباد و ( سابكو ) كي نشاهد محل الطيور والحيوانات والأسماك وبعدها (مجمع الحارثي ) … وكنا نتأقلم ونتعامل بأريحية معه في حال رفضه اصطحابنا وكان كثيرا ما يكتفي بحملنا في باص الوزارة إلى الوزارة .. وألتقي بالعديد من الوجوه التي أصبحت فيما بعد مألوفة عندي.
كل تلك الوجوه والأسماء ظل بعضها راسخا في مخيلتي وارتبط بعضها بالآلات الطابعة والآخر بآلات النسخ التي كنت مهووسا بها لدرجة أنني أبحث عن أي شيء لتجربة عملية النسخ وما زلت حتى اللحظة أتذكر رائحة الحبر النافث من آلات النسخ العتيقة التي كانت تستخدم آنذاك .. أتذكر أيضا اثنين من موظفي الوزارة كان أحدهما يسمعني الشعر العامي من العازي والرزحة .. وكان الآخر يكتب الفصيح .. فيما بعد أهداني الأخير إصداره الشعري الذي ما زلت أحتفظ به حتى الآن ، أما الأول ففرح كثيرا لأنني أصبحت فيما بعد شاعرا شعبيا مثله حظي بالفوز في الكثير من المسابقات الأدبية وصار شاعرا ومخترعا ظهرت صورته في الصحف والمجلات والتلفزيون.
نفس كل تلك الوجوه والأسماء ارتبطت ارتباطا وثيقا بهذا المبنى الذي كلما مررت بجانبه يجرفني سيل هائل من الذكريات .. ارتبطت مراحل متعددة في حياة والدي العملية فيما أذكر بالسيد قحطان بن يعرب البوسعيدي .. والسيد بدر بن سعود بن حارب البوسعيدي ، والسيد محمد بن سلطان البوسعيدي .. والسيد علي بن حمود البوسعيدي ، والسيد سعود بن إبراهيم البوسعيدي والآن السيد حمود بن فيصل بن سعيد البوسعيدي .. كل تلك الأسماء كانت هي الأخرى قد ارتبطت في مخيلتي بمناسبة أدبية كُرِمت بها في مسابقة ما أو فعالية ما .. كنت أنتشي حينما ينادي مذيع الحفل اسمي اعتقادا مني أن هذا الوزير أو الوكيل راعي المناسبة يعرف والدي في وزارة الداخلية … وكنت بعدها أقول لوالدي إذا تزوجت ورزقت بولد سأسميه حمودا وسيصبح بهذا (حمود بن فيصل بن سعيد) ، ولم يكن والدي يملك إلا أن يضحك من كلامي هذا ويردد : ” خييير لين تتزوج ” ! .
لذا لامست وزارة الداخلية الكثير من مراحل حياتي ربما لأن والدي موظف بها وراتبه منها ونحن كبرنا وتعلمنا وترعرعنا من خيراتها .. وربما للعلاقة المباشرة التي ارتبطت فيها بسبب زياراتي المتكررة في طفولتي وفترات أخرى أيام دراستي الابتدائية ثم الإعدادية مع والدي واعتدت الجلوس طويلا هناك .. واطلعت على تجارب جديدة في التقنيات المتطورة آنذاك ويستهويني النظر إلى اسم الوزارة المطبوع على السيارات التي كان والدي يقلها أو الرقم ١١ رمز الوزارة في السيارات الحكومية.
المهم أنني أحب وزارة الداخلية ..، وحينما أشاهد أي مكتب مضاء مساء وأنا أمشي في ممشى الوزارات مرورا بها ، أشعر بأن والدي له دور ـ وإن كان بسيطا ـ ينجز من خلاله عمله … وأشعر بأن كل إنجاز تحققه الوزارة هو مفخرة لي .. كنت لا أتردد أن أقف وسط الشارع وألتقط صورة للمبنى عند الانتخابات .. وبالأمس كنت سعيدا جدا أن تحقق الوزارة إنجازا جديدا في عملية فرز الأصوات بطريقة حديثة وقبلها كنت سعيدا أن الوزارة تطبق أفضل المعايير المهنية لإدارة وسير العملية الانتخابية … كل ذلك يشعرني بالفخر ،، ويحق لي أن أحتفي بوالدي و وزارة الداخلية.