أثير – تاريخ عمان
إعداد – نصر البوسعيدي
الكوليرا مرض خطير ينشأ عن بكتيريا من النوع الواوي تعيش في الماء الملوث بالبراز البشري الذي بإمكانه أن تتلوث به الخضروات والفواكه وغيرها من الأطعمة التي تحتوي على كميات من الماء الملوث أو أي طعام يحط عليه الذباب وهو ملامس لبراز آدمي مصاب بالمرض، كما بإمكان أن تعيش هذه البكتيريا المسببة للكوليرا في خزانات المياه التي تحمل في السفن وقوافل السفر البرية لعدة أيام.
بشاعة الكوليرا تتمثل في معاناة المصاب وآلامه وهلاكه حتى الموت بعدما يداهمه المرض بشكل مفاجئ، والذي يتسبب بقيئ شديد وجفاف في الجسم وإسهال مستمر وتشنجات مؤلمة جدا وذبولا يجعل الجلد أشبه باللون الأزرق وخاصة اتجاه الأطفال المصابين به، لذلك يطلق على هذا المرض عادة بالرعب الأزرق وقليل فقط من ينجو من الموت.
وحينما تتوارد الأخبار اليوم بمأساة تفشي خطورة وباء الكوليرا القاتل في اليمن الجريح وضحاياها الأبرياء نتيجة مآسي الحرب والانقسام وتدمير البنى التحتية وعدم توفر المياه الصالحة للشرب والعلاج المناسب في مستشفيات أغلبها مدمرة وناقصة من الأدوات الطبية اللازمة، نشعر بكل الأسى والحزن على الحال الذي وصل له الجار الشقيق وأهله خاصة بعدما فتك هذا المرض مع الحرب بالكثير من الأبرياء جلهم من الأطفال والنساء.
ولأن الذي سبق له المعاناة من هكذا وباء قاتل وفقد الآلاف من الضحايا نتيجة انتشاره بفترة زمنية ما، ستجده أكثر خلق الله قربًا وإحساسا بمعاناة الآخرين.
فمرض الكوليرا في عمان كان من أكثر المآسي المرضية هلاكا، وسجل ودونت أحداثه في التاريخ الحديث كأخطر الأمراض فتكا بالبشر، وقد كانت بداية انتشاره في المدن العمانية لأول مرة في العشرينات من القرن التاسع عشر الميلادي، والذي انتقل إلينا بداية من موانئ مسقط عن طريق السفن التجارية وبحارتها القادمين من الهند التي أصيبت بالكوليرا في عام 1817م وفقدت من خلاله أكثر من 25 مليون شخص.
ولأن عمان وتحديدا مسقط كانت قبلة أكثر السفن التجارية القادمة من القارة الهندية والأفريقية مع كل ما يحملونه من بضائع فبلا شك أن الخطورة تكمن كذلك في الأمراض المعدية التي يحملها هؤلاء البحارة لكل ميناء يلامسونه كمسقط التي كانت أول دول الخليج استقبالا لهذه الكارثة في عام 1821م.
ولذا فإن بداية الاجتياح الأول للكوليرا في عمان كانت نتيجة هذه الأسباب، وقد كتبت التقارير البريطانية آنداك ودونت ما حدث نتيجة انتشار هذا المرض كالذي دونه الكولونيل جايكار من القنصلية البريطانية في مسقط بتاريخ 1 أبريل عام 1900م، حيث يقول:
” أثبتت الصحراء العربية الممتدة التي تشكل واحدا من الحدود الطبيعية لعمان وتعزلها واقعا عن شبه الجزيرة العربية انها دون شك المانع الضخم الذي يحول دون انتشار أي مرض وبائي ناحيتها برا، أما بحرا والذي يمثل القناة الوحيدة تقريبا للاتصال مع دول العالم فقد كانت السفن الشراعية وأنواع أخرى من القوارب الوسيلة الرئيسية التي نقلت وباء الكوليرا لعمان، مما جعلها مسرحا لثلاثة أوبئة عامة كبرى كالكوليرا خلال القرن التاسع عشر”
ويقول ايثكن في كتابه العلوم وممارسة الطب :
” عندما وصل وباء الكوليرا إلى مسقط كانت هناك روايات عن حالات لقيت حتفها بعد انقضاء عشر دقائق فقط على ظهور نوبات المرض الواضحة”.
أما الدكتور روز بنرجر في كتابه حكايات لرحلة حول العالم خلال الأعوام 1835 – 1836 – 1837 م فقد كتب إشارة لحجم الكارثة وضحايا وباء الكوليرا في عمان وقال:
” في يونيو / حزيران 1821م عندما قتلت الكوليرا 10 آلاف شخص من رعايا سلطان عمان كانت الحرارة وقيظ الصيف شيئا لا يطاق وبدا لو أن الريح ترسل شواظا من له، حتى انه في منتصف الليل كانت قراءة الترمومتر 104 درجات مئوية”.
الاجتياح الثاني لوباء الكوليرا في عمان:
ظهر الكوليرا في عام 1865م وأحدث فوضى واضطرابا كبيرا في الخليج ، وبعض مدن الساحل الفارسي، ولكن هذه المرة كانت العدوى قادمة إلى مسقط من السفن القادمة من زنجبار وكانت البداية من خلال إحدى هذه السفن القادمة من لامو بزنجبار وتحمل على ظهرها 85 فردا بينهم مصابون بقي منهم فقط 35 فردا وصلوا إلى مسقط حاملين معهم الكوليرا بالإضافة إلى بحارة السفن القادمين كذلك من الهند إلى مسقط وبذلك انتشر الوباء بسرعة كبيرة ومخيفة في عمان حيث بلغ عدد الوفيات بحلول عام 1865م 600 شخص في مسقط لوحدها فقط و1700 حالة وفاة في مدينة صور وانتشر بعدها لعدة مناطق في السلطنة، وفتك بعدد كبير من الناس، وقد حذرت السلطات البريطانية الحكومة العمانية ودعتها إلى اتخاذ الإجراءات المشددة لتلافي انتشار الوباء بإقامة الحجر الصحي للمصابين قدر الإمكان لمواجهة مشكلة انعدام المستشفيات أنذاك، وإيقاف لبرهة من الزمن استقبال السفن القادمة خاصة من الهند التي كانت تعاني كثيرا من وباء الكوليرا.
الاجتياح الثالث لوباء الكوليرا في عمان :
كان في عام 1899م مثلما أشارت له التقارير الغربية التي أشارت آنذاك للمرض وضحاياه في مسقط، حيث أشارت بعض التقارير إلى أن وباء غريبًا اجتاح مسقط في عام 1899م وكانت إصاباته يوميا تتجاوز الـ300 حالة ولكن كل صفات المرض تشير إلى انه الكوليرا مثلما أكده التقرير الذي أرسله مندوب القنصل ما كيردي بمسقط في 11 أكتوبر من عام 1899م نتيجة قدوم بعض السفن من جوادر التي انتشر فيها الوباء وتمكنهم من الهروب من إجراءات الحجر الطبي مما تسبب بانتشار المرض بين الناس ليقضي هذا المرض على حياة 135 مريضا في مطرح فقط بينما شفي الكثير نتيجة علاجهم في المستشفى البريطاني وفي آخر التقرير أشار ما كيردي إلى تلاشي المرض تدريجيا من مطرح.
أما رسالة القنصل الفرنسي في مسقط أوتوني والمؤرخة في 18 نوفمبر عام 1899م فذكر فيها أن الكوليرا قضت على أكثر من 150 شخصا في مسقط ومطرح بين 29 أكتوبر و3 نوفمبر، ثم انخفض عدد الوفيات إلى 45 شخصا بين 4 و10 نوفمبر وفي الفترة ما بين 11 – 18 نوفمبر انخفض عدد الوفيات إلى 8 أشخاص بينما كان وباء الكوليرا يفتك بحياة الناس في مدن أخرى من عمان ففي طيوي مثلا تشير التقارير إلى وفاة 300 مريض بينما لم تتأثر مدينة صور والسيب كثيرا بالوباء عكس وادي المعاول وسمد والرستاق ونخل ووادي بني رواحة، وقد حاول السلطان فيصل بن تركي التقليل من انتشار الوباء في عمان بإقامة المحجر الصحي على القوافل القادمة من داخلية عمان باتجاه مسقط.
وقد أشارت أغلب التقارير الأجنبية إلى أن انتشار هذا الوباء كان بدايته من خلال وصول عدد من التجار المصابين القادمين من كراتشي جوادر إلى ميناء مسقط ومطرح ثم انتشر الوباء في مدن عمان المختلفة عن طريق قوافل التجارة بشكل مأساوي.
الاجتياح الرابع لوباء الكوليرا في عمان:
ظهر الوباء في عام 1904م، حيث أشار إليه بعض التقارير الأجنبية الصادرة من مكاتب القنصليات الأوروبية في مسقط لحكوماتهم وذكروا فيها موضوع انتشار الكوليرا في المناطق الداخلية مما تسبب في نزوح عدد كبير من الأهالي باتجاه مسقط وقد اتخذ السلطان فيصل بن تركي الصرامة في تطبيق الحجر الصحي للقادمين من الداخل، مما أسهم بشكل كبير في التقليل من حدة انتشار المرض في مسقط.
الاجتياح الخامس لوباء الكوليرا في عمان عام 1910م :
أشار له أحد تقارير القنصليات الأجنبية في مسقط وذكر التقرير تفاصيل انتشار الكوليرا في العاصمة وجهود السلطان فيصل بن تركي بمسألة الحجر الصحي لتفادي انتشار الوباء في البلاد، وقد أشار التقرير إلى وفاة 4 اشخاص في مسقط ولله الحمد كان هذا الوباء قليل التأثير ولم يبق طويلا للاحترازات التي وضعها السلطان مثلما أشرنا إليها سابقا.
ولا شك في أن خبرة التعامل مع هذه الأزمة وتكرار اجتياح الوباء وترسيخ ثقافة الالتزام بالحجر الصحي في المجتمع العماني وخاصة في مسقط كان لها الأثر الكبير في التقليل من مخاطر الوباء الذي أتى من خارج الحدود عبر تاريخ ظهوره في السلطنة.
لذا فالاحتراز واجب في كل وقت وبخاصة في هذا الزمن العصيب الذي يمر به اليمن وما يعانيه من وباء خطير جدا للكوليرا حيث تشير التقارير الأممية إلى تأزم الوضع وخطورته، الذي يهدد حياة عشرات الآلاف من اليمنيين وانتشاره في أكثر من 20 محافظة حيث تم تسجيل وفاة أكثر من 1800 شخص جلهم من الأطفال وإصابة أكثر من 370 ألف فردا بالوباء مع انعدام الخدمات الصحية والمياه الصالحة للشرب والبيئة المناسبة للمعيشة.
المراجع:
1 – الكوليرا تجتاح بعض مناطق الخليج عامي 1821 و1865م، صحيفة دار الخليج، الأربعاء 5 يوليو 2017م، د. محمد فارس الفارس.
2 – تاريخ الوباء في عمان في دورية أمريكية، وليد النبهاني، صحيفة البلد، 13 -8 – 2014م.
3 – محطة فرانس 24، 7-7-2017م.
4 – الويكيبيديا – تفشي الكوليرا في اليمن 2017م.