أثير – تاريخ عمان
إعداد : نصر البوسعيدي
يسطر التاريخ العماني سيرة الكثير من المجيدات العمانيات النبيهات الفقيهات الأديبات الصالحات شقائق الرجال ومصانع الأبطال وملهمات للقوة والطموح والرفعة في كل مكان وزمان ..
ورجال عمان البواسل عبر التاريخ من حرروا البلاد من براثن الاستعمار البرتغالي الغاشم ومن سطروا أمجاد عمان عبر التاريخ ومن أسسوا امبراطورية يشهد لها التاريخ في كل زمان، لم يكن نابع ذلك من فراغ بل كان أساسه قوة المرأة العمانية الأم والزوجة والابنة.
لقد كان لنساء عمان الكثير من المواقف في شتى المجالات الحياتية بعمان والتاريخ يشهد ويدون بأنها قد تفوقت كذلك في الفقه وطلب العلم وزاحمت الفقهاء بعلمها وقوة اطلاعها لتصبح بعضهن فقيهات عالمات يرجع الناس لهن للفتوى وحل المسائل الفقهية التي تلامس مشاكل الرجال والنساء على السواء ، بل تجاوزت مكانتها والأخذ برأيها في بعض القضايا السياسية مثل الفقيهة العالمة الكفيفة الشيخة عائشة بنت راشد الريامية البهلوية التي عاشت في أيام دولة اليعاربة، حيث تنتمي إلى أسرة علمية في بهلاء وعاشت تقريبا ما بين القرنين 11 و12 للهجرة، ولقد رزقها الله بذكاء حاد وبصيرة نيرة واشتهرت بعلمها الغزير منذ أن كانت صغيرة وفي ريعان شبابها رغم فقدانها لبصرها فكانت حريصة كل الحرص على التفقه في أمور دينها وطلب العلم فسافرت من بهلاء إلى الرستاق رغم صعوبة التنقل أيامها لتزداد علما بعدما أخذت الكثير من والدها الشيخ الفقيه راشد بن خصيب الريامي، وفي الرستاق تتلمذت على يد الشيخ العالم مرشد بن محمد بن راشد الأغبري البوصافي وبخاصة في علم المواريث وأحكامها.
وكأن الله قد أنعم على عمان من بعد أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها امرأة تحذو حذوها كالشيخة العالمة عائشة الريامية رحمها الله.
وصدق الشاعر حينما قال عنها :
” كفاك من الأفضال يا ابنة راشد ..
بنسخ بيان الشرع للمتعلم ..
اقتديت ( بأم المؤمنين ) بعلمها ..
فوافقتها بالعلم والاسم تلزمي ..
لقد كانت الريامية قوية بعلمها وآرائها ومواقفها ضد الظلم في سبيل الحق بالإضافة إلى ذكائها وحكمتها ونزاهتها في النظر للأمور والقضايا والأحداث والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر امتثالا لقوله تعالى في سورة التوبة ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ).
ورغم أنها كفيفة لكنها فاقت كثيرا من الرجال في علوم الفقه والشريعة وتصدرت الفتوى في زمانها وحفظت المخطوطات العمانية القديمة فتواها ومواقفها والكثير من المسائل التي أجابتها، وكيف لا وهي من تعيش بأرض عمان وتعتنق دين السلام والرحمة والحقوق والتقدير والإحترام.
كان الناس في عصر الشيخة عائشة يفدون إليها من كل مكان من أجل أن يتتلمذوا على يديها أو من أجل أن تفتيهم في الكثير من مسائلهم الشرعية لأنها بحق كانت بعلمها في مصاف كبار علماء عمان، يشار إليها دوما بالبنان.
وكتب عنها الأدباء والعلماء في زمانها سيرتها العطرة لتبقى مثالا رائعا للمرأة العمانية العصامية الرائعة، كيف لا وهي من حظيت بمكانة سامية بين أهل عمان ووسط علماء عصرها وهي من سخرت حياتها كلها عطاء واجتهاد من أجل رفعة دين الإسلام وتثقيف الناس وتعليمهم مختلف المسائل الشرعية بل وكذلك مسائل السياسة الشرعية لذا لا غرابة أن تجد أن المخطوطات العمانية التي عاصرت زمانها كانت حينما تشير إليها في أي مسالة فقهية يذكرون كجامع المسكري هذه العبارات لمكانتها :
” من جواب الشيخة الفقيهة العالمة العلامة النزيهة الزاهدة عائشة بنت راشد بن خصيب البهلوية…”
وهكذا كان أهل عمان يجلون ويشيرون إلى عالمتهم وفقيهتهم لمكانتها الرفيعة في قلوبهم حيث قال عنها سماحة الشيخ الجليل المفتي العام للسلطنة أحمد بن حمد الخليلي حفظه الله :
” كانت – الشيخة عائشة الريامية – عالمة على قدر عظيم من العلم، أسهمت إسهاما كبيرا في دفع عجلة العلم إلى الأمام، وكانت لها اجتهادات تخالف فيها علماء زمانها، وكانت بينها وبين العلامة الصبحي وهو المرجع في ذلك الوقت -ورغم ذلك- كانت كثيرا ما تخرج عن رأيه بما يترجح عندها من الرأي الذي تراه أنه الأصوب والأولى بالاتباع”.
وفوق هذا يشهد التاريخ العماني بأن الشيخة عائشة كذلك كان لها مواقف سياسية قوية في قضية عزل الإمام بلعرب بن سلطان اليعربي بعد الصراع مع أخيه الذي كان يريد الإمامة له وهو سيف بن سلطان ( قيد الأرض )، فعارضت بشدة مسألة العزل وكانت من المعارضين السياسين للإمام سيف الذي أراد انتزاع الإمامة من أخيه وكسب تعاطف العلماء في ذلك ومنهم الشيخة عائشة الريامية لمكانتها العلمية وفضلها وتأثيرها على شريحة كبيرة من المجتمع لدرجة أن سيف بن سلطان في مراسلته لأخيه بلعرب مطالبا بتنازله عن الإمامة لصالحه كان يقول له :
” ولا يغرك خط بن عبيدان ولا فتوى المرأة العمياء – الشيخة عائشة الريامية -” .
وهذا إن دل فيدل على أن الإمام بلعرب بن سلطان كان يعتمد كثيرا على فتوى ومشورة هذه المرأة، وبعد أن مات وتولى أخوه سيف الإمامة لم يكن إليها العداء بل العكس أخذ منها كذلك الفتوى والمشورة واحترم مكانتها وعلمها ومواقفها السياسية اتجاهه حتى حينما أمرته بلزوم بيته إلى حين النظر إلى أمر مبايعته بعد وفاة أخيه واشترطت في مبايعته بعدما بين لها الإمام حسن نيته بأن يرد كل المظالم التي عليه لتبايعه على الإمامة وهو قيد الأرض الإمام سيف بن سلطان الذي اشتهر بقتال وقهر البرتغاليين الغزاة.
الجدير بالذكر أن الشيخة عائشة الريامية عاصرت في زمانها مثلما دونه التاريخ العماني بعض الفقيهات العمانيات وأشهرهن الشيخة راية بنت عبدالله بن خلفان البيمانية ، والشيخة فرحا بنت علي بن محمد.
لم تكتفِ الريامية في زمانها بكل ما قدمته للمجتمع في الفتوى والآراء وحل المشكلات بل أسست كذلك مكتبة تجمع فيها مختلف العلوم والكتب الفقهية ، واشترت العديد من المخطوطات وأمرت بنسخ الكثير من العلوم الفقهية لصالح مكتبتها التي أرادت منها خدمة ومرجع لأبناء وبنات عصرها وعصرنا كبيان الشرع والمصنف والأشراف ومنهج الطالبين والمحاربة وغيرها الكثير، وجعلت من مكتبتها وقفا أبديا للجميع، فقد بقى العديد من مخطوطات وكتب مكتبتها حتى يومنا هذا ليظل عطاؤها وعلمها ومكانتها محفورا في التاريخ بأحرف من ذهب ليقول لنا أن المرأة العمانية منذ التاريخ وهي عظيمة معطائة تكمل بناء الاوطان.
لقد أسلمت الشيخ عائشة الريامية الروح رحمها الله واسكنها فسيح الجنات بعد مسيرة ضخمة من العطاء لعمان وأهلها في سنة 1147هـ ليبقى أثرها منارة شرف وقدوة لكل عمانية مجدة في تخصصها وعلمها وعملها وبيتها.
هكذا كان المجتمع العماني الذي يجل ويقدر المرأة العمانية في كل مكان وزمان ويحترم علمها وثقافتها ومكانتها وخدمتها لوطنها ويترجم كل ذلك حتى في عصرنا هذا فنجد اليوم الوزيرات والسفيرات والطبيبات والمهندسات والحقوقيات والمعلمات والشرطيات والإداريات والعاملات وصاحبات الأعمال وفي كل المجالات التي أثبتت فيها عطاءها ورفعتها ومكانتها وتفوقها.
المرجع : الدرر البهية من أجوبة الشيخة العالمة عائشة بنت راشد الريامية ، جمعه ورتبه خلفان بن سالم بن علي البوسعيدي، الطبعة الأولى 2017م، مكتبة الضامري للنشر والتوزيع، سلطنة عمان.