أثير – المختار الهنائي
“قم للمعلم وفه التبجيلا، كاد المعلم أن يكون رسولا” وَضعَ هذا البيت الشعري المعلم في مقام يكاد أن يصل إلى مقام الرسل، الرسل الذين يجوبون بلدان الأرض من أجل توصيل رسائل الخير للبشرية، كحال المعلم الذي يعد نموذجا لنشر العلم بين ثنايا طلابه في كل مدينة وقرية، وكل سهل وجبل، بل وحتى في الإقامة والغربة.
الغربة التي يعيشها المعلمون في كل بقاع الأرض، يجسدها المعلم العُماني الذي لم يثنِ جهدا منذ انطلاق عصر النهضة المباركة في 1970م، تلبيةً لنداء القائد في تعليم أبناء عمان ولو تحت ظل الشجر، واستمر تحقيق هذا المنجز حتى اليوم، ومع استمراره تستمر غربة المعلم بين المدن والمناطق النائية مع التنوع الجغرافي للسلطنة.
“أثير” تابعت خلال الأيام السابقة ما تم تداوله في مواقع التواصل الاجتماعي حول #أزمةمعلماتمغتربات، خصوصا مع تعدد وجهات النظر في الموضوع، فهناك من يرى أنه من الواجب على المعلمة الصبر من أجل تحقيق الأهداف التي تسعى عمان وأهلها جميعا إلى تحقيقها من أجل أبنائها، وهناك وجهات نظر أخرى تؤيد إيجاد حلول لأن تكون غربة المعلمة -على الأقل- مرحلية وليست دائمة.
واقتربت الصحيفة من المعلمات الداعيات عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى حل لمشكلتهن، والمفاجأة أن الحديث معهن كشف قصصًا ومشكلات تتعرض لها المعلمة العمانية الملبية لنداء الواجب في المناطق النائية والبعيدة عن مناطق سكنها وعائلتها، والتي يجب أن يتم النظر إليها بعين جادة من قبل المسؤولين في وزارة التربية، مع نظرة أخرى إنسانية تقف إلى جانب المعلم الإنسان في هذه المرحلة.
كما حاولت “أثير” التواصل مع وزارة التربية والتعليم للتعليق حول ما أثارته المعلمات في مواقع التواصل الاجتماعي لكن لم نتلقَ أي رد حتى وقت كتابة هذا الموضوع .
وقبل الدخول فيما طرحته المعلمات لـ”أثير” من تجارب الغربة وقصصهن خلال السنوات الماضية وحتى اليوم ، تتحدث المعلمة مها المقبالية حول مطالب المعلمات والحلول العاجلة، وما يجب على الوزارة أن تقوم به الفترة القادمة والتعيينات الجديدة، فالمقبالية معلمة من محافظة البريمي تكمل عامها السابع في الغربة خارج محافظتها فتقول: “من الصعب أن تغترب المعلمة لمدة 7 سنوات خارج محافظتها، ووزارة التربية لا تبلغنا عن فترة التعيين في المناطق البعيدة لكي نعمل حساب ذلك بترتيب أوضاعنا الأسرية، والأجدى أن تقوم الوزارة بعمل خطة زمنية للمعلمة لكي تعرف الفترة التي ستقضيها هناك، كما أن من العدالة أن يتم التعيين في المناطق البعيدة لفترة ثم يحق لها النقل في محافظتها، وهناك معلمات تذوقن مرارة الغربة لـ7 سنوات، وهناك من تعينت بالقرب من منزلها واستمرت هكذا، ولا يوجد نظام ينظم هذه العملية، ولو قامت الوزارة بتدوير المعلمين على المحافظات بحيث يضحي كل معلم بفصل أو عام من حياته التدريسية في منطقة نائية وليس تخصيص معلمين لسنوات، والوزارة لديها قسم للتنقلات وأقسام للتخطيط ولكن للأسف لم تجد حلا لهذه المشكلة، ولا يوجد خطة واضحة أبدا ولا آلية شفافة، بحيث ترسل معلمة لمنطقة حدودية مثل المزيونة ولا تعرف متى ستعود من هناك”.
وتضيف المقبالية :” لا يوجد حافز للمعلمة للعمل في المناطق النائية ولا بدلات أو مصاريف للسكن أو النقل، ولا حارس، كما أن الوزارة لا توفر سكنات للمعلمات، وتضطر المعلمة إلى استئجار سكن وتأثيثه، وتضطر في كل مرة يتم نقلها البحث عن سكن وتأثيثه، رغم أن الوزارة توفر للمعلمات الوافدات السكن والنقل، وما تحصل عليه المعلمة العمانية هو 30 ريالا فقط علاوة بدل مشقة، وكما هو معروف أن المناطق النائية تكون بعيدة عن الخدمات ويصعب على المعلمة التنقل، كما يصعب عليها تربية أبنائها هناك، خصوصا أحيانا لا تجد مسكنا إلا بالقرب من العمالة الوافدة سواء كان من يعمل في حقول النفط أو البحر، وهم موجودون بشكل كبير وبعضهم يتجمعون بصورة مريبة، ومعلمات كثيرات تعرضن للاعتداء والسرقة ، لذلك أقترح أن توفر الوزارة مسكنا للمعلمات حتى ولو كان ملحقا غير ثابت في المدرسة مع وجود حارس عماني، حتى يقوم بالتنسيق مثلا في حال وجود مشكلة طارئة لدى المعلمة أو أبنائها”.
وتكمل المقبالية حديثها ” بأن مدارس السلطنة غالبا ما تكون كبيرة ونقترح أن يتم توفير غرفة كحضانة مؤقتة لأبناء المعلمات لوجود أقاربهن على بعد مئات الكيلومترات، ومن هنا تستطيع المعلمة إحضار عاملة منزل للاهتمام بطفلها وتكون بالقرب منه خصوصا وأن أغلب المدارس فيها غرف فاضية”.
من جانب آخر تقول المعلمة أسماء المنعية من محافظة شمال الباطنة وهي إحدى المعلمات العاملات في منطقة المزيونة بمحافظة ظفار، إنها فقدت توأميها بسبب حالة ولادة مبكرة، ولم تجد موافقة للنقل أو الانتداب لوضعها الصحي وهي التي تبعد عن أهلها أكثر من ألف كيلومتر في شمال الباطنة وتوضح “لم أكن أعلم بأن غربتي سيكون ثمنها روحين طاهرتين انتقلتا إلى جوار ربهما، ولست أعترض على القدر وما كتبه الله لي لأني أؤمن بأن الله أنعم علي بنعمة عظيمة بأن منَّ عليَّ بأن يكون لي شفيعتان عوضا عن واحدة وما أجزلها من نعمة ، فقدت توأمي نتيجة ولادة مبكرة بعد العودة من السفر الطويل داخل الوطن لقضاء إجازة عيد الأضحى مع عائلتي فأضحى عيدي مرارة فقدان توأمين، رغم أنني سعيت بما كفله لي النظام المتبع في الوزارة من التقدم بطلب للانتداب مراعاة لظروفي الصحية وهي حملي بتوأم ومشقة السفر لمسافات بعيدة برا وجوا ويأتي الرد بالرفض دون أي اهتمام بصحتي وصحة من في أحشائي”.
أما المعلمة هاجر النعيمية من محافظة البريمي فتعمل في نيابة الشويمية بمحافظة ظفار وتقول :” أنا معلمة مغتربة من سبع سنوات وأم لطفل، بدأت معاناتي عندما تم تعييني كنت سعيدة جدا في البداية، لكن عندما ذهبت إلى مكان تعييني في نيابة الشويمية بمحافظة ظفار انصدمت لأن المكان يفتقر إلى أبسط الخدمات، فلا يوجد سوى محل صغير نأخذ منه احتياجاتنا وبالكاد نجد خبزا، ولا يوجد آلة سحب بنكي، ولا نستطيع الذهاب إلى صلاله لأنها تبعد أربع ساعات ولا نجد مواصلات للذهاب هناك ولا نستطيع العوده إلى أهالينا إلا بنهاية العام الدراسي بسبب المواصلات”.
وتضيف النعيمية “انتهت معاناتي في ظفار وتم نقلي إلى ولاية أدم، في مدرسة طريقها بعيد، ونقطع يوميا مسافة ساعة وربع الساعة في شارع خطير مليء بالشاحنات وفي أحد الأيام حدث ما لم يكن بالحسبان، انحرفت الحافلة وانقلبت لعدة مرات، أصبت أنا وزميلاتي بإصابات قوية، ونتج عن الحادث عدم تمكني من المشي لفترة طويلة بسبب الإصابة في الظهر وإلى اليوم أعاني من الحادث، ثم تم نقلي بعدها إلى منطقة بين بهلاء وعبري لكن السكن غير ملائم لنا نحن المعلمات، حيث يسكن بالقرب منّا عمال آسيويون بأعداد كبيرة يتجاوزون الـ300 عامل، ويفتقر السكن الى الأمان والنظافة والراحة، وفي العام الماضي أخذت طفلي معي إلى مكان عملي لكنه لم يتأقلم، وكانت النتيجة أنه يمرض بشكل أسبوعي وأدى ذلك إلى التغيب عن الدوام، وهذا العام قررت تركه مع والدتي الكبيرة في السن لكنه يبكي كثيرا ويقوم كل ليلة يبحث عني، ولا أعلم إلى متى هذه الغربة والتشتيت العائلي ،وكيف يريدون من معلمة أن تقطع ساعات أسبوعيا لمكان عملها وتترك فلذات أكبادها أن تعطي أفضل ما عندها لصناع المستقبل وهي لا تشعر بالأمان الوظيفي”.
وتقول المعلمة إيمان الكندية وهي من ولاية لوى بمحافظة شمال الباطنة :” ما زلت في سنتي السابعة بعد تعييني في ولاية أدم ، وجاءت الوظيفة بعد ٣ سنوات انتظار بين فرحة أهلي وفرحتي بأني أصبحت فردا منتجا في عائلتي، ومرت حياتي في فترة عزوبيتي وخطوبتي وزواجي وأمومتي لطفلين وأنا ما زلت في المكان نفسه تتقاسم الغربة ملامح حياتي، مع المشاكل التي تلاحقنا بسبب الغربة الطويلة، ولكن أكثر ما يوجع المعلمة المغتربة هو أطفالها الذين يذوقون معها مر الأيام”.
وتضيف “من يشاهد طفلي يدرك أنه تقاسم معي الألم، رفضت فكرة ترك ابني وأخذت إجازة لمدة عام كامل، وبعد مضي سنة تابعت في المكان نفسه ، وتركته مع مربية عمانية لأدخل في مشاكل أخرى معها، ولاحظت مديرة المدرسة حالتي النفسية التي تأثرت بشرود الذهن أثناء العمل، وقامت بمساعدتي عبر توزيع الحصص لبعض زميلاتي المعلمات ووافقت على الانتداب، لكن مديرية التربية رفضت بسبب عدم وجود شواغر أخرى، وتوجهت إلى الوزارة في مسقط لكن لم أجد آذانا صاغية وعلمت لاحقا أنني منتدبة إلى سمائل لكن لم يتم تبليغي بالموضوع، بعدها طُلب مني أن أنتقل إلى سمائل فورا ووجدت صعوبة في العثور على سكن مناسب وترتيب وضعي مع ابني ، وبعدها وجدت سكنا قديما سكنت فيه وحدي مع ابني وهو في حارة قديمة، ومرت حتى الآن سبع سنوات أقدم انتدابا خارجيا وداخليا ويتم رفضه”.
وتختم الكندية حديثها لـ”أثير” بأن مطلبهن الرئيسي هو النقل بعد سنوات الغربة، وتحقيق العدالة بتقييد المعلم بفترة محددة في المناطق النائية أو البعيدة عن مكان سكنه، وتوفير سكنات وحضانات لأطفالهن حسب تقدير الإدارات لغربتنا ومعاناتنا والبحث عن حلول للمعلمات والذي أصبح الكثير منهن يعانين نفسيا من طول فترة الغربة والتي بلا شك ستؤثر على سير العمل التربوي في السلطنة -كما تعبّر-.
ذكريات كثيرة وقصص حكتها المعلمات لـ”أثير” منها ذكريات زميلاتهن المعلمات الـ4 اللواتي ذهبن ضحية الحادث في وادي العربيين خلال العام الدراسي 2015/2016، بسبب وجود المدرسة في منطقة جبلية ويضطرن إلى التنقل يوميا إلى هناك، ومنها قصة المعلمات اللاتي تعرضن للاعتداء في 2012م وانتشرت قصتهن كثيرا، وكان ضحيتها معلمات ما زلن حتى اليوم يتجرعن التأثير النفسي والاجتماعي.
وقصص أخرى سمعتها “أثير” من المعلمات أنفسهن مرفق معها مستندات وملفات طبية عن الحالة الصحية لهن ولأبنائهن، منها معلمة منذ 6 سنوات تم تعيينها في الدقم وتنقل أبناءها معها في تشتت أسري مستمر طوال هذه الفترة، وأخرى وقع أبناؤها ضحية عاملة المنزل بعد أن اكتشفت من كاميرات المراقبة أن ابنها يتعرض للتعذيب من قبل العاملة التي اضطرت لأخذها معها في غربتها، وأخرى من ولاية صحار تعمل في محافظة شمال الشرقية وتقطع ساعة ونصف يوميا من سكنها حتى المدرسة الواقعة في منطقة نائية وتضطر بين فترة وأخرى إلى أخذ إجازة بدون راتب من أجل أبنائها وأسرتها.
هذه “بعض” من القصص والمعاناة تنقلها “أثير”، وهناك قصص أخرى لا يسع الحديث عنها جراء الغربة في مناطق نائية أتت بمشاهد غريبة حتى على المجتمع العماني منها حالات اعتداء وتحرش ، وأخرى مضايقات من العمالة الوافدة. ذكرن قصصهن مع الأمنيات بأن يتم النظر في إيجاد حل لهذه المشكلة. ومع إيمانهن بالواجب الوطني والمهني والرسالة السامية التي وضعنها نصب أعينهن، أكدن أن الأمر بحاجة إلى حلول وتنظيم يختصر في تدوير الهيئة التدريسية تحقيقيا للعدالة ، وكذلك توفير سكنات من قبل الوزارة مزودة بمفاتيح الاستقرار والأمان حتى يستطعن إيصال الرسالة التي انطلقت منذ فجر النهضة المباركة، والتي بلا شك تبدأ من الاستقرار الأسري والوظيفي للكادر التدريسي لتحقيقها.