أثير- د.عبدالله باحجاج
من منا لم يسمع عن فريق الأيادي البيضاء في محافظة ظفار ؟ ربما يكون الأغلبية – إن لم يكن الكل – قد نما اليه الخبر عبر حواسه الخمس ، لكن ، كيف كانت بدايته ؟ وكيف انفتحت عليه الجهات الحكومية ، ومنحته مظلتها القانونية ؟ وكيف اصبح يمثل مظهرا من مظاهرنا الإنسانية التكافلية والتضامنية تجاه أشقائنا في اليمن ؟
تجربة إنسانية ، تحتم الدراسة المتأنية حول نشأتها ، وحركة تطورها ، ومآلاتها الراهنة والمستقبلية ، ليس من منظور التباهي ، ولا استعراض الجهود المجتمعية تجاه اشقائهم في اليمن ، وانما لأننا امام تجربة ، بدأت فردية ، وسرعان ما تحولت الى جماعية ، حتى أصبحت تتكون من مجموعات كبيرة من أبناء المجتمع المحلي ، من الجنسين ، يبلغ عددهم الآن (1700) عضو .
يتشكلون في مجموعات تطوعية تخصصت في جانب من أهم الجوانب الإنسانية ، وهو العلاج النوعي في السلطنة ، كالسرطان وامراض القلب .. بعد ان تزايدت حالات الاقبال من اليمن الشقيق على العلاج في بلادنا ، وتقف هذه الحالات عاجزة تماما عن توفير ثمن علاج هذا النوع من الامراض، المكلف ماليا .
الفريق يجسد رسالة إنسانية من اشقاء الى اشقائهم في الدين والعروبة ، ومن جيران ، يأبون ان يقفوا متفرجين على مآسي اشقائهم اليومية، سواء الناجمة عن البلاء أو الابتلاء الشخصي أو نتيجة الحروب والفقر والتشريد التي يتعرضون لها منذ عدة سنوات .
إذن ، المطلوب معرفة كل الأسباب والعوامل التي أسهمت في صناعة هذه التجربة ، وكيف ذللت لها كل الموانع والعقبات حتى وصل بها الامر الان الى أن تستظل بشرعية وقانونية الهيئة العمانية للاعمال الخيرية التي نسجل لها شهادة تقدير تاريخية في الوقوف مع محن ومصائب الاشقاء حتى قبل تفجر الصراعات والحروب الأخيرة .
- الايادي البيضاء .. اسم على مسماها .
الايادي البيضاء .. اسم على مسماها .
من مسماها ” الأيادي البيضاء ” يكشف لنا الفريق المؤسس المؤطر لها عن مضامين أهدافه وغاياته ، فهى تعني النعمة العظيمة التي ” لا يشوبها من ولا اذى ” وفيها تذوب الفردانية في العمل الجماعي المشترك ، والجماعة في العمل الإنساني ذاته ، فلا يظهر فيها قائد ، ولا رائد ، وانما آثاره هي الظاهرة فوق السطح فقط ، من هنا سميت بالنعمة العظيمة التي لا يشوبها من ولا أذى .
وهذه غريزة الانسان العماني الفطرية ، التلقائية ، الصادقة ، التي تؤكدها شريعتنا الإسلامية ، وتستجيب لها العقول البشرية ، بدأت حصريا بالحالات اليمنية المعدومة ، وتوسعت الى الاعتداد بحالات محلية وإقليمية ، فحولت دموعها الى فرح ، ويأسها الى أمل ، واعادتها الى سير الحياة الطبيعية ، حامدة ، شاكرة الله عز وجل ، على نعمة الأخوة الإسلامية ، وعلى حسن الجوار العماني .
حالات كثيرة وعديدة ، كانت تحتاج الى علاج كيماوي بالآلاف ، فوفر لها ، وحالات مماثلة تحتم علميات قلب مفتوحة ، وبالالاف ، فكان لها ، وكسور متعددة ، جبرت قلوب أصحابها ، قبل اجسادها ، ورجعت الى وطنها ، اليمن ، بعد ان تضامن وتعاضد اخوتهم وجيرانهم ، مع آلامهم ، لكنهم عادوا وفي احدى أيديهم ، الامل الجديد في الحياة ، وفي الأخرى ، الخوف من القصف والتدمير ، وتحت هاجس العودة من جديد .
وصل بهذه التجربة الرائعة ، الى استيعاب الحالات المرضية التي تحتاج الى جرعات كيمياوية أو عمليات قلب مفتوح أو فشل كلوي أو كسور متعددة او تبرع بالكلى .. الخ وعندما يتعرص حالات من داخلنا أو من دول أخرى ، تنفتح هذه المبادرة عليهم فورا ، فمثلا ، آخر الإحصائية المنشورة فيها (14) حالة مرضية تعاني من امراض مزمنة ، (12) منها يمنية وواحدة سعودية وأخرى صومالية .. وصرفت عليها مبالغ كبيرة ، فمثلا حالة تعاني من مرض سرطاني صرف عليها (1500) ريال جرعة كيماوية ، وأخرى اجرى لها عملية قلب مفتوح (1610) ريالا وأخرى قسطرة قلب (38، 1242) ريال ، وأخرى كسور متعددة (2500) ريال .
- فريق الأيادي البيضاء .. وظروف نشأته .
فريق الأيادي البيضاء .. وظروف نشأته .
لا يمكننا أن نفهم أو نتفهم البعد الإنساني لهذه التجربة ، الا اذا توقفنا لو قليلا عند سياقاتها وظروف نشأتها ، عندها لن نستغرب انتشارها ، والتفاف المجتمع حولها ، وأخير إكساب مظلتها القانونية تحت اشراف الهيئة العمانية للاعمال الخيرية ، من منظور تلاقي بعدها الإنساني مع الابعاد الخيرية الخارجية للهيئة ، مما تشكل هذه التجربة الان إضافة إنسانية في مسيرة بلادنا الخيرية مع اشقائنا الجيران في اليمن في محنهم القهرية .
لم يكن سالم الجحفلي ، يتصور أو يخطط ان يكون رائدا لهذه التجربة ، فقد كان شغله الشاغل ، الوقوف مع حالة مرضية لفتاة يمينة مصابة بمرض السرطان ، علقت مع ابيها الطاعن في السن في حالة العدم المطلقة في توفير المال اللازم للعلاج الكيماوي ، فجعل الله عز وجل على يديه البركة ، لأن نيته كانت صادقة مع الله عز وجل ، فأنتج حراكه توفير مبالغ العلاج اللازمة بالسرعة الزمنية الفائقة ، ولم يكن يعلم حتى في هذه الحالة انه مسخر من القدر لما هو أكبر من التعرض لهذه الحالة ، فتعرضت له حالة مرضية أخرى ، لامرأة يمنية مصابة بمرض عضال لا يوفر لها العلاج المجاني الممنوح للاشقاء اليمنيين ، ففتح قضيتها للرأي العام المحلي عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، وتمكن من خلالها وبسهولة من كسب أصحاب الانفس الابية ، وما أكثرهم ، والايدي السخية من الافراد والجماعات والهيئات ، ويتعاظم دورهم يوميا ، فتوفر المال لها ، وعاد أملها في الحياة يسري في شريانها ، وعادت الى أبنائها ، تمارس دورها كأم في تربية أبنائها ، ولن تنسى بلدا اسمه سلطنة عمان .
ومن نجاح هاتين الحالتين ، فتحت الافاق الرحبة للجحفلي لما هو أكبر ،فقرر تأسيس موقع ثابت في الفضاء الالكتروني عبر مجموعة جروبات من الجنسين ، وفق الخصوصية الثنائية ، تحث المواطنين على التبرع شهريا ما بين ريال أو ثلاثة ريالات فقط ، وهم ينطلقون بذلك من مبدأ اصيل ، وهو التخفيف على الناس بقدر المستطاع ، ومثل تلكم المبالغ ، هي في متناول المستطاع للكل ، وهي قليلة ، فماذا تعني ثلاثة ريالات ، لكنها عندما تتجمع تشكل حزما مالية ، يمكن أن تنقذ حياة شقيق أو ترجع له سلامته الجسدية أو النفسية، وله في ذلك الاجر العظيم .
- في القليل الاجر العظيم .
في القليل الاجر العظيم .
يقف وراء تحديد الريال والثلاثة ريالات ، قراءة موضوعية ودقيقة ، لقدرات المواطنين المالية ، وتزايد الضغوطات المقبلة عليها بسبب الرسوم والضرائب ، لذلك ، فقد انطلقوا من الممكن للكل ، ولمن أراد المزيد ، الخير امامه مفتوح .
سندلل هنا بآيات واحاديث هي معلومة بالضرورة ، لكننا اذا ما ربطناها بالريال وبالثلاثة ريالات ، فنتوقع ان يكون الاقبال عاما وشاملا ، ودون تردد ، خاصة بعد أن أصبح هذا الفريق يعمل تحت اشراف جهة حكومية – كما سيأتي بيانه لاحقا –
يقول الله عز وجل ” وما تنفقوا من خير فلأنفسكم، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ” وهنا الانفاق المطلوب ريال أو ثلاثة ريالات ، هل من عاقل يتردد في هذا الخير العظيم المتاح له الآن ؟
ومن الاحاديث الشريفة ، ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه – ان النبي – عليه الصلاة والسلام – قال : من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر ، يسر الله عليه في الدنيا والاخرة ، ومن ستر مسلما ، ستره الله في الدنيا والاخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ” وهذه الأجور العظيمة في منطوق الحديث ، يمكن للمرء أن يتحصلها على كلها بريال أو ثلاثة ريالات ، فمن سيتردد بعد الان بالريال أو الثلاثة ريالات ؟
وبالريال أو الثلاثة ريالات فقط ، سندخل انفسنا في خيرية افضل الاعمال عند الله عز وجل ، بشهادة منطوق الحديث النبوي الشريف التالي ، فعن ابي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أفضل الاعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورا ، أو أن تقضي عنه دينا أو تطعمه خبزا ” ولو احكمنا العقل ، ومن منظور المصلحة الذاتية لكل فرد منا ، هل ينبغي التردد عن دفع الريال أو الثلاثة ريالات شهريا ؟
- الأيادي البيضاء .. تحت المظلة القانونية
الأيادي البيضاء .. تحت المظلة القانونية
ربما يكون التردد سابقا ، فيه شيء من الحذر الفردي والمجتمعي على اعتبار ان هذه المبادرة لا تحمل اية شرعية قانونية ، بل وقد تضع نفسها تحت طائلة القانون ، على انه أي القانون يمنع جمع الأموال بمثل هذه المبادرات ، لكن الآن ، وبعد ان انفتحت الجهات الحكومية مع هذه المبادرة ، ورأت فوائدها الجسام ، وصدق نوايا رائدها ، ومؤسسيها ، وتلاقى جانبها الإنساني مع اهتمام الدولة بالجوانب الإنسانية مع الاشقاء اليمنيين ، تم ربط الفريق بالهيئة العمانية للاعمال الخيرية المتخصصة في تقديم مختلف أنواع الدعم للإنسانية خارج الحدود ، واليمنية على وجه الخصوص بسبب الحروب والأمراض والفقر التي يعانون منها .
وهنا ينبغي التأكيد بصورة واضحة ، لدواعي تعزيز الثقة في هذا الفريق ، أن هذا الأخير ، قد أصبح يشرف عليه الان الهيئة العمانية للاعمال الخيرية ، وقد خصصت الهيئة حسابا باسمها لاستقبال تبرعات أعضاء فريق الايادي البيضاء في بنك مسقط ، وعند ظهور حالة مرضية تحتاج لدعم مالي لعلاجها تقوم إدارة الفريق بمخاطبة الهيئة لمخاطبة المستشفى نفسه من أجل تغطية تكاليف علاجها .
ماذا تعني هذه الإجراءات ؟
اخضاع العمل الإنساني من حيث مهامه وأهدافه وصلاحياته وآليات الرقابة عليه ، للعمل المؤسساتي للدولة ، وبالتالي ، فهذا العمل الإنساني الأصيل ، لا يسير وفق التمركز العالي لرائده أو لمؤسسيه ، وانما في اطار عمل مؤسساتي تشرف عليه الدولة عبر الهيئة العمانية للاعمال الخيرية ، وارتباط الفريق بالهيئة ، فكرة غير مسبوقة ، وتنم وعي مزدوج ، أولهما الحاجة المجتمعية للعمل الإنساني المستقل ، وثانيهما ، وعي دولة بالتحديات التي قد تصاحب العمل الإنساني التطوعي .
الخاتمة
شكرا لمن كان له دور – صغيرا أو كبيرا – في ارتباط فريق الأيادي البيضاء بالهيئة العمانية للاعمال الخيرية ، فهذا الارتباط قد شرعن عمل الفريق الإنساني ، واستوعبه رسميا بعد ان اثبت وجوده على الأرض بنوايا وأفعال المؤمنين به الذين أبهرونا بحيوية فاعليتهم وفعاليتهم في مساعدة الاشقاء اليمنيين في تجاوز محنهم وماساهم المرضية ، متجردين من الابعاد الشخصية والمناطقية والقبلية .
فشكرا لكم يا أبناء هذا المجتمع – من الجنسين – فانتم تقدمون للوطن تجربة نموذجية في المواطنة التفاعلية الإيجابية المجردة والخالصة لله وللوطن وللانسانية ، وبذلك تسهمون في تعزيز حق الجار على جاره ، استشعروا الاجر العظيم من الله رب العالمين ، فقد اختاركم الله عز وجل من بيننا لهذه الإنسانية المعذبة والمعدومة ، فهنيئا لكم بهذا لاختيار ، إنه لأجر عظيم لكم في الدنيا والاخرة، بنصوص تلكم الآيات القرآنية والاحاديث النبوية الصحيحة .
لن يخذلكم افراد المجتمع بعد ان اكتسبتم الشرعية القانونية التي كانت ناقصة في استكمال صورة عملكم الإنساني ، كما ان الريال وثلاثة ريالات لم يعد شرط تحويلها للبنك شهريا ، الوسيلة الوحيدة ، فقد سمح للفريق بعد هذه المظلة ان يكون له صناديق لجمع التبرعات في عدة أماكن العامة ، لن نتردد من الآن في التبرع بتلك الريالات ، ولنعلم انها ستنقذ مريضا ، وسندخل الفرحة والسرور على اسرته ، وسنفرج عن همومها ، ونعيد لها ، الامل والابتسامة .. والرابح دائما المتبرع نفسه ، وبماذا ؟ بريالات معدودة ، فمن يحرم نفسه هذا الخير كله ؟ كلنا مع الايادي البيضاء ، فلن نتردد الان في الريال او الثلاثة ريالات ؟
وأخيرا نتساءل ، لماذا لا تعمم هذه التجربة على مستوى السلطنة ويتم تطويرها ؟ فالامراض المستعصية في بلادنا في ازدياد ، والاسر تقف عاجزة عن علاجها خارج البلاد ، ومثل هذه التجربة تفح لنا الأبواب والافاق معا ، للتضامن والتكافل ، فهل ستسارع مجتمعاتنا المحلية في دراسة هذه التجربة ؟