فضاءات

هلال الزيدي يكتب: من الأسلاك الشائكة إلى “التاريخ المشترك”!

هلال الزيدي يكتب: من الأسلاك الشائكة إلى “التاريخ المشترك”!
هلال الزيدي يكتب: من الأسلاك الشائكة إلى “التاريخ المشترك”! هلال الزيدي يكتب: من الأسلاك الشائكة إلى “التاريخ المشترك”!

هلال بن سالم الزيدي- كاتب وإعلامي

هلال بن سالم الزيدي- كاتب وإعلامي

 

يعد تعريف ابن خلدون للتاريخ الأدق في التوصيف وما يحمله من دلالات عميقة تحتاج إلى تقصٍ لفظي ولغوي ومعنوي حتى نفهم التاريخ وكيفية تحويله إلى قيم صالحة لمستقبل الأمم والشعوب وهنا يقول: ” إن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية؛ إذا هو يوقفنا على أحوال الماضيين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا”.

 

أما الشاعر الفرنسي بول فاليري يقول : إننا لا نزال من التاريخ في حالة الاعتبار النظري، والمراقبة المضطربة.. التاريخ يبرر ما نريد، إنه لا يعلم شيئا بدقة وحزم لأنه يشمل على كل شيء، و يقدم المثل على كل شيء … التاريخ أخطر محصول أنتجته كيمياء الفكر … )) وهو تعريف وضعه بناء على قناعة كونه يعتبر أحد رواد المدرسة الرمزية في الشعر ، مع التأكيد إلى عدم الانحياز في تدوين التاريخ أو رسم ملامحمة بما يناسب المنتصر إذا تعلق الأمر بالسرد التاريخي وتتبع حوادث الزمان.

 

تلك مقدمات تزاوج بين أهمية الماضي للأمم وضرورة وضعها كعامل قوة للحاضر لرسم المستقبل الذي لا تتضح ملامحه عند كثير من الشعوب ” فهو مهين ولا يكاد يبين” لعدم قدرتها على فهم واقعها أو وضع أولوياتها لأنها امتهنت التقليد أو أنها ظهرت متخبطة دون وجود تخطيط أو أنها لم تتحد في بوتقة واحدة للمصلحة العامة، وإنما أراد شخوصها تسجيل تاريخ فردي بإنجازاته التي لا تعترف بالأسس الجماعية، فكم من حضارات كانت متصلة إلا أنها أرادت الانفصال لتشعر بأهمية وجودها لمجرد بناء تاريخ لا يعترف بأصلة ولا يضع النقاط على حروف التاريخ وإنما يحولها إلى تحريف ويرسم حدود وفواصل تبتغي الفرقة والتعصب.. لذلك ظهرت الأسلاك الشائكة والجدران العازلة ودفاتر العبور التي وسمت “بالجواز” تحت ذريعة الحفاظ على أمن الدولة أو ما شابه ذلك من مسميات، لكن القصد في ذلك هو الحفاظ على شخوص بعينها وإعطاؤهم المكانة التي يحتاجها الآخر بأن يمرر عليها أجندته الخاصة بما فيها التنكيل بالشعوب.

 

إن تعميق عوازل الكُره وتثبيت جدران الفصل العنصري والاستحواذ بالمراوغة على حقوق الآخرين كرّس ويكرّس البؤس والتفرقة في مجتمعات الجسد الواحد؛ كما أنها توجد خلل في التركيبة السكانية من حيث إيجاد أجيال هجينة لا تؤمن بتاريخها القديم بل تبحث الفوارق الحديثة وتعمق لديها “الأنا” وتزيد من حالة التشرذم التي أودت بقوة الأمم، وتعتبر الأسلاك الشائكة أحد تلك العوازل المبنية كحد فاصل بين الرأس وباقي الأعضاء الأخرى، بغية من بُناتها أن يصنعوا رأساً آخر ولممارسة الصفاقة والعنجهية السيادية والرغبة في التحكم.

 

الأسلاك الشائكة وبحسب المعروف عنها فهي تلتف حول المراكز الأمنية، وتعتلي أسوار السجون حتى لا يفر منها المجرمون، كما أنها تُدلل على القيد والقهر، فيتبادر إلى الذهن بأن تلك المنطقة المتنكرة بسلاسل وأشواك هي منطقة مغلقة ويمنع الاقتراب منها، ومع تعقد المصالح بين الدول وبين الجيران والانسياق خلف المصلحة أصبحت الأسلاك مجد تاريخي يُتغنى به، وعُدّ جزء من الحياة التي تؤمّن بها بعض الدويلات مستقبلها، دون أن تلتفت على أثرها الإنساني على مر التاريخ الذي يراد له أن يكون مشتركاً!

 

الحواجز الأمنية.. الحدود .. الأسلاك الشائكة.. نقاط العبور.. البحث عن التاريخ وأعلامه.. علامات فاصلة بُنيت عليها الحقوق والحدود التي عليك أن تمارس عليها صلاحياتك دون الضرر بجيرانك، إذا كانت سلمية في طبيعتها ولا تمس سيادة الآخرين في ممتلكاتهم..فهي فواصل تفصل أمتدادات مختلفة وتحد من اتحادها، وهي فواصل تفصل بين الصالح والفاسد.. وهي فواصل مفتعلة بعدة أهداف، منها النكاية والتنكر للبحث عن أصل، ومنها فعل فاعل لكسر التوحد من أجل التشرذم لممارسة الهيمنة على المفعول به بشتى صنوف النصب والرفع حتى وإن كانت بنية الجملة (مكسورة)، أما إذا كانت استعمارية حربية فهي نظام حربي يهدف إلى ممارسة الضغوطات لتحقيق النصر بدون إطلاق رصاصة واحدة على الطرف الآخر، فهنا شرعيتها واضحة، لدرأ خطر يتجهم علينا.

 

معظم الدول من المحيط إلى الخليج سعت بعد استقلالها إلى ترسيم حدودها مع جيرانها وذلك تحسبا أمنيا كي لا تتعكر المصالح فيما بينها، وبعض الدول تنازلت عن مساحات شاسعة من أراضيها لجيرانها بهدف السلام، وتحسين العلاقات حتى لا تثار النزاعات، وبعض الدول أو الأقاليم التابعة أرادت أن تستقل وتبني لها تاريخا وحضارة ليس لها وإنما مسلوبة من حضارات أخرى فهي مزيج بين عدة حضارات، وتنادي بالفخر والاعتزاز في بناء ناطحات السحاب لبلوغ أرقام جينس بشتى الطرق والوسائل، متنكرة لأصل أعطاها طيبة الخلق، ولعلها ترى في ذلك صوابا، وفق المبدأ الذي يقول البقاء للأفضل.

 

كنا في فترة زمنية ليست بالبعيدة نرى الأسلاك الشائكة كتعبير عن نهاية الحدود في المحطات الفضائية عندما تتناول أخبار الشرق الأوسط وخاصة أخبار الاحتلال الصهيوني، أما الآن فنحن نشاهد تلك الأسلاك في شتى الاتجاهات ، ومهما تعنيه من فلسفة سياسية وأمنية إلا أنها تبقى أسلاكا لها الكثير من المدلولات التي تفسر بلغات مختلفة، لكن دائما ما يتجلى هدف صاحبها في وجودها بشكل واضح جدا.

 

حدود متداخلة من حيث البنية الجغرافية ومتقاربة من حيث البنية السكانية، ونابعة من عمق حضاري وتاريخي واحد، يفصلها سور ممتد من الأسلاك الشائكة تزرع نفسها كلُغم مؤقت على وشك الانفجار غضبا، فكيف تبني سورا أيها الجار في أرض أجدادي؟ وكيف تريد أن تقطع اليد التي امتدت إليك وأعطتك أرضا لتستقر عليها؟ ومهما تكن أسبابك فإن سورك شوه المنظر العام، وروج الإشاعات التي لا حدود لها بين فصيلة الشعب الواحد.

 

توضيح الحدود وترسيمها حق دولي لأي دولة لها كيانها، وهذا في نطاق الاتفاقيات الدولية، لكن عندما تكون هذه الحدود نقمة على الشعوب المجاورة ويراد منها باطلا في حقوق المجتمعات المدنية، فهنا تتجاوز مشروعيتها وتصبح انتهاكا لحقوق الإنسان بشكل عام، وما يقود السياسيين لتثبيت الحدود بالأسلاك الشائكة بالقوة، واستغلال معاهدات السلام والجيران الذين يبتغون السلام الدائم هو الفيصل في سياسة مد الأسلاك المجهزة بأجهزة المراقبة لفرض السيطرة والتنكيل بالمبادئ العامة التي قامت عليها حقوق الجيرة.

 

إن كانت الحدود فاصلا يراد به الفصل بين شعوب لها نفس الامتداد التاريخي فتلك مصيبة جاء بها المحتل منذ عهود سابقة، ليزرعها في بيئة كثر المراءون فيها، وإن كانت تلك الحدود يراد بها غطرسة وإيقاد فتيل الفرقة، فسيأتيها يوم وتسقط كسجن الباستيل، وإن كانت إحساسا بالإمارة والمُلك ، فالملك لله عزوجل دائما وأبدا.

 

هو امتداد وغطرسة ممنهجة، وهناك دويلات تريد تاريخاً مشتركاً لكنها لا تؤمن بأنها جزء منه، فمن الأسلاك الشائكة تطور الوضع إلى التاريخ المشترك والتشكيك في النسب التاريخي والانتماءات، فارتموا في الشوك ضانين أنها الحضن الدافئ لهم، وكما يقال : “إن صدر هذا اليوم ولّى فإن غداً لناظره قريب”.

 

الحدود الوضعية هي دستور بنى عليه الكثير من الشرذمات أمجادهم، والتعدي عليها حرام كتحريم الزنى، أما حدود الله فقد تعدوا عليها نهارا جهارا (أعاذنا الله) والله المستعان..

Your Page Title