ساعي بريد الهواء
النّهْرُ هو الذي يشْربُ من فمِ الغزالةِ
سفيان رجب
محمد الهادي الجزيري
لا يمكن وصفه إلا بالفتى الكاتب ..فلا هو شاعر ولا قاص ولا روائي ..هو كلّ هذا وأكثر، مازلت لم أكتشفه تماما ولكني أحاول هذه المرّة التعرّف عليه واكتشاف هواجسه وحرائقه ..، نال صديقنا سفيان رجب عدّة جوائز عربية منها : جائزة مفدي زكريا سنة 2007 بالجزائر وجائزة طنجة الشاعرة سنة 2009 بالمغرب وجائزة عفيفي مطر سنة 2009 في القاهرة ..، وهو موزّع في الكتابة ومقترف لأكثر من نوع أدبي ..فإلى جانب الشعر نجده في فنّ الرواية صاحب متن ” القرد الليبرالي ” كما أصدر مجموعة قصصية بعنوان “الساعة الأخيرة” إلى جانب مجاميعه الشعرية والتي آخرها “ساعي بريد الهواء”
منذ البداية يباغتنا سفيان رجب بمديح عال للخيال، ففي نصّ غنّي عنوانه “جنازة فقيرة لرجل عاش ملكاً ” يفتتحه بكلمة لأنسي الحاج هي: عشْ ملكا تكنْ قانعاً، يمدح الخيال كعنوان للحياة وضدّ للموت ..لا تتحقّق بدونه إنسانية الواحد منّا …فمن دونه يفقد المرء كنزه الأكبر ورحابة فكره وسعة تحليقه ..، يبدأ إذن بهذه الجمل النثرية ..لكنّها غاصّة جدّا بالمعاني الشعرية :
” ما دامَ المرْءُ مُحصّناً بخيالهِ، فهو الملكُ في كوخهِ
وهو السّندبادُ في حوضِ السِّباحةِ
وهو الشاعرُ في صمته “
في قصيدة ” الأصل ” يدخل لُبّ الموضوع ويشير إلى العدد المهول الذي انفردت به الفراشة من القصائد المادحة المرحبة بقدومها ..في حين نكاد لا نقرأ إلا القليل من النصوص المكتوبة عن الدودة ..وهذا ظلم بعينيه ..في حين أنّ الدودة هي أصل الحكاية:
” مَلاَيِينُ القَصَائِدِ في العَالَمِ كُتِبَتْ عَنِ الفَراشَة،
أَمَّا القَصَائِدُ التي كُتِبَتْ عَنِ الدُّودَة تَكَادُ تُعَدُّ بِبَتَلاَتِ زَهْرَةٍ “
ثمّ يمرّ إلى صلب المسألة ..يعدّ مزايا الدودة في إنشاء الحضارة وذكر القليل من الكثير ممّا علمته لنا في مسيرتنا الإنسانية وما قدمت من أفضال ..لا لشيء لردّ الحقّ لصاحبه فلا يكفي أن تكون الفراشة ذات ألوان زاهية ومتفرقة كي تستفرد بالمديح والتغني والتبجيل..وأنا عمدا اخترت الفقرة الموالية انتصارا له وردّ اعتبار للدودة المظلومة كسائر الكائنات :
” عَلَّمَتْنَا الدُّودَةُ كَيْفَ نُحَوِّلُ أَوْرَاقَ التُّوتِ قُمْصانًا ومَناديل
وفَتَحَتْ لَنا طَريقَ الحَريرِ لِنَحْلُمَ تَحْتَ قِبابِ “سَمَرْقَند” الزَّرْقاء.
عَلَّمَتْنا فَنَّ التَّحَوُّلِ مِن اللَّيْلِ إلى الضَّوْء،
كَيْفَ نُدَغْدِغُ الحَياةَ وَكَيْفَ نُخَرِّبُ المَوت.
عَلَّمَتْنا الدُّودَةُ ما لا تَفْهَمُهُ الفَراشَةِ أَبَدًا.”
ثمّة قصيدة أنقلها بحذافيرها فهي صرخة الشاعر في وجه العالم ..ودعوة للحبيبة أن تترفّق به فيزول بؤس الكون وضواحيه..، وتعود مثلا أسراب اللقالق إلى أعشاشها ..والتفّاح يصير كما كان تحت فعل الجاذبية يثير شهوة النساء على سبيل المثال ..، إنّها قصيدة تعجّ بحرائق الشاعر وهلوسته حين تهجره التي في القلب ..:
” قولوا لها توقف كل هذا الخراب “
منذ يومين، وأنا متخاصم مع حبيبتي
لهذا السبب يبدو العالم بائسا،
والأمطارُ مشْنوقةٌ على أشجار الخرّوب.
ولهذا السبب، تسافر منذ يومين أسراب اللّقالق التي كانت تبني أعشاشها فوق قرميد حكاياتنا، وتتساقط دموع غزيرة من أشجار اللّيمون النابتة في قصائد محمود درويش وفي قصص غسّان كنفاني.
القيثارات تخاصمت مع الأصابع،
الأبواب بصقت المفاتيح،
القمر قضمه ذئب،
الطرق بالوعات،
البرتقال ليس أزرق مثلما تخيل بول إيلوار
الدنيا مصابة بالسرطان وقد تساقط شعرها الذهبيّ على أكتاف العالم الثالث،
الجبّانات تتكاثر، الجذام يركض في مدن الصفيح، الجرذان تقهقه، الخبز مرّ، التفاح لا يسقط بفعل الجاذبية ولا تشتهيه النّساءُ، الشّرق والغرب يتخاصمان وقد فتحا بينهما كل كتب التاريخ، وراحا يتصفحانها بأصابع مغموسة في الدّم،
كل الأصابع مغموسة في الدّم والنّدم، الدم والندم يتبعان بعضهما ويوزّعان علينا الرسائل من أصدقائنا الجنود الذين انتشروا على خريطة العالم…
…..
يحدث كل هذا،
وحبيبتي لا تكلّف نفسها لترفع الهاتفَ،
وتوقف بصوتِها كلَّ هذا الخراب والنَّزيف.
هذا بعض سفيان رجب ..آمل أن أكون قد وفّقت في تقديمه والتعريف به فهو من خيرة كتّابنا ومازال في مقتبل العمر …وأختم بوحي ببوحه الوارد في المجموعة :
” لَمْ أَشَأْ أَنْ أُصْبِحَ شَاعِرًا
رَغْمَ أَنَّ الخرس يَطْلُبُ أَنْ أَنْقُلَ لَهُ ما تَقولُهُ العاصِفَةُ للأشْجار
والعَمَاءُ يَتَوسَّل إليَّ أَنْ أَصِفَ لَهُ خُضْرَة الحَفِيفِ
الرُّموزُ هي التي سَرَقَتْ أَجْنِحَتي،
وقَدْ كُنْتُ طَائرًا لا اسْمَ لَه “