الشيخ حمود السيابي يكتب: #23_يوليو_المجيد في الدقم حيث تتلاقى القارات ويتسابق العالم

المجلس الأعلى للبترول الكويتي يوافق على الاستثمار في مصفاة الدقم.. ورئيسه يؤكد: خطوة مباركة في مشروع حيوي واعد
المجلس الأعلى للبترول الكويتي يوافق على الاستثمار في مصفاة الدقم.. ورئيسه يؤكد: خطوة مباركة في مشروع حيوي واعد المجلس الأعلى للبترول الكويتي يوافق على الاستثمار في مصفاة الدقم.. ورئيسه يؤكد: خطوة مباركة في مشروع حيوي واعد

حمود بن سالم السيابي

هذه هي الدقم… وعلى هذا اليباب مشى جلالة السلطان سعيد بن تيمور منتصف خمسينيات القرن الماضي زائرا للتاريخ ولكن بدون مشروع، وعابرا للجغرافيا ولكن بدون وعود.

وعلى رملة هذا المكان كتبتْ إطارات الدفع الرباعي للسيارة السلطانية رقم (١) أجمل ملاحم الوطن ضمن التطواف السنوي لسيد عمان حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله ورعاه في ربوع البلاد بدءا بالقلب في مسقط ومرورا بكل الشرايين حتى ظفار ومعه الوعود المنجزة للجغرافيا والمشاريع المتحققة للتاريخ.

وعلى هذه الأرض التي لم تعد بكرا حطتْ في الثاني والعشرين من أبريل عام ١٩٨٦ م الهليوكبتر السلطانية وترجَّل منها معالي قيس بن عبدالمنعم الزواوي وستة من الوزراء، جاءوا بأوامر سامية من سيح الزمايم إلى شطآن البحر الحدري ليحاوروا الوجوه الشُّم وعفيفات المكان، ويشاركونهم صياغة الحلم الأخضر للغد.

وكنتُ والفريق الإعلامي في الهليوكبتر المرافقة نخترق سديم الغبار فنمشي برقاب تتوجَّس مخاوف امتداد الزعانف الجريئة لمراوح الطائرة.

ولم تكن تلك المهمة الوزارية الأولى للدقم وما جاورها، ولا كانت الأخيرة للمكان الذي وإن نأى في الجغرافيا فهو ككل الأشبار في الخارطة العمانية ينام في حضن الوطن، وككل حبة رمل تتدفأ كل ليلة بفيوضات سيد عمان.

كانت أرض الدقم في معظمها عذراء لا تدوسها إلا أرجل أسراب القطا، ولا تخالطها إلا آثار أقدام بدوية تتبع سخلتها الشاردة.

وما أن تهبُّ ريح الصبا إلا وتمحو ما تخلفه أرجل سرب القطا من رسوم على الرمل، وتندرس ما تتركه البدوية وسخلتها الشرود من آثار.

وكانت الدقم في معظمها مجرد قرى من صفيح وخيام واستراحات لقوارب صيد أنهكتها المطاردات المثيرة لأسماك القرش والسباقات اليومية مع الموت.

وكانت ككل أراضي الوسطى تسْمَرُ قبل عام ٧٠ على قمر السماء ومشاعل آبار حقول النفط وقد افتقدتْ للبطل الذي يوظف الثروات لإسعاد الإنسان، حتى قيضتْ العناية الإلهية للوطن مجيئ البطل والحلم والمشروع ومعه الوعد والوفاء والإنجاز.

ولعله لم يدرْ في خَلَدِ هذه الوجوه الشُّمّ العرانين أن ترى يوماً مداخن المصانع التي تناطح الغيم فتجعل من شجر “الأكاسيا” قصيرة الجذع.

ولا خطرَ على ذهن عفيفات المكان أن تشمّ الأنوف عبق الزيت و”حامض السيباسك” ، وتطلّ العيون الحيِيَّة من خلف البراقع على عالم لا يُرى إلا في هواتف الأطفال وهم يتصفَّحون ملفات عواصم العالم.

ولأول مرة أتصادقُ مع “البلدوزر” الذي طالما كرهته في حروفي، لأجده هنا مختلفا عما عهدته، إذْ لا ينسفُ جمالَ الماضي كجرائمه السابقة والمدانة في حاراتنا التي قضمها بنهْمْ، وبيوتنا التي انقضَّ عليها بشراسة وأعمارنا التي قتلها بحقد وذكرياتنا التي طمسها عن سابق إصرار وترصّد، فالبلدوزر هنا يبني الدقم ويهدي المستقبل أول مدينة عمانية تتواءم مع كبريات المدن الصناعية في العالم.

ويرسي هنا دعائم أول مدينة مستقبلية تصافح السفائن العملاقة برافعاتها الشامخة، وتناطح الغيم بمداخن مصانعها ومصافيها، وتطاول السماء بهامات وهمم الإنسان.

أمشي في الدقم متتبعاً مسارات البلدوزر كعابر من الأمس البعيد البعيد البعيد إلى ما بعد بعد بعد الغد الأقرب.

وعند هذا النتوء الصخري حيث تتكسر أمواج البحر الحدري يزحف البلدوزر ليبني أكبر مجمع للموانئ بالدقم على أنقاض فوالق الأزمنة ليعيد لعمان كسيدة للموانئ استحقاقها الريادي، وللملاح العماني أحمد بن ماجد الاعتبار وللنواخذة الإرث، فتتزاحم في ميناء الدقم وفي مكان واحد عشرات الأرصفة بين ميناء للنفط وآخر للبتروكيماويات وثالث ورابع وعاشر لبقية قطاعات التصدير التجاري كأرصفة الحاويات التي تضم محطتين بطول ١٦٠٠ متر وبقدرة على التعامل مع ٣،٥ مليون حاوية نمطية سنويا، ومحطة للمواد الجافة والسائبة بسعة خمسة ملايين طن متري سنويا لتحوِّل شطآن البحر الحدري إلى غابة من الرافعات الشوكية تنافس بها عمان موانئ المستقبل بعد أن كانت قرون الظباء وبن سولع أطول ما تصادف العين في المكان.

وعند هذه الشجرة النخرة للأكاسيا ترتفع مداخن المصانع لتضع عمان على خط الصناعات الثقيلة في مجمع ضخم يمتد لأكثر من ١١٥ كيلومترا مربعا يشمل المحطات المتكاملة للكهرباء والمياه والمصافي ومصانع الإسمنت وغيرها.

هنا رست بالأمس “العبارة جسورة” وعلى متنها جلالة السلطان سعيد بن تيمور ، وهنا تتسابق اليوم على رسو سفائن العالم.

وعلى هذه الأرض السبخة حيث هبطت بنا الهليوكبتر السلطانية يتلون الأفق اليوم بزعانف الطائرات التي منحها برج المراقبة في مطار الدقم الدولي إذناً بالهبوط لتشكل الطائرات الجاثمة في المدرجات منذ بدء تشغيله رسميا في ١٤ يناير ٢٠١٩م لوحة تقدمية تنتقل بالمكان من هدير “بيكابات” الصيادبن ومحركات “الياماها” في الهواري العتيقة إلى ضجيج الطائرات وصخب المطارات ومشاهد التوديع والاستقبال لوجوه وسحنات وألوان ولهجات ولغات وثقافات القارات الخمس.

ولعل الحديث عن مصطلح مطار الدقم في حد ذاته قفزة جبارة من العصور السحيقة إلى مفرق دهر الألفية الثالثة وقد أملتها ضرورات ربط عمان بعصب الصناعات في العالم إلى جانب تيسير سبل التنقل الجوي لسكان الدقم وولايات الوسطى، ليبلغ حجم ما أنفقته الحكومة في إنشاء هذا المطار ما يزيد على ٩٠ مليون ريال عماني.

هذه هي الدقم الحديثة والمختلفة التي نذرع دروبها وميادينها وساحاتها ونحن نسرج الحلم.

وهذا هو الحوض الجاف كأحد عناوين نجاحات الدقم والذي يعدُّ الثاني من نوعه في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

ونقف على شفير الحوض وقد تعددتْ أسماء السفن الراسية وجنسياتها والأعلام التي ترفعها وسحنات البحارة عليها، وقد تلاقى ربابنة البحر بشطآن الأمان في عمان.

نتأمل هذا المرفق الهام الذي يتكوَّن من حوضين بأبعاد وأعماق قادرة على التعامل مع كافة أحجام السفن وأطوال غاطسها ومن مختلف الأجيال والأوزان، إلى جانب توفر أرصفة طويلة ممتدة في البحر تتيح اصطفاف طوابير من السفن الراغبة في الرسو لأخذ دورها في التصليح، ما جعل الحوض الجاف يحتفل بتمكنه في إصلاح أربعة عشر سفينة في آن واحد مسجِّلاً رقما قياسيا مهمّاً، ويخطِّط القائمون على إدارة هذا المرفق لرفع هذا الرقم مستقبلا.

نواصل التطواف في دعامات المكان يملأنا الزهو بهذا الاحتشاد الأممي، فهذه شركة “سيمنز” الألمانية العملاقة وهي تنقل إلى الدقم توربينات غازية إلى المحطة المتكاملة للماء والكهرباء بقيمة ٢٠٠ مليون يورو.

وهذه مصفاة الدقم حيث يدبُّ في خلاياها أكثر من أربعة آلاف عامل كدبيب النمل، وهم يسهرون على تنفيذ ثلاث حزم للمصفاة تشمل وحدات المعالجة الرئيسية للمصفاة والمرافق الداعمة للخدمات التشغيلية ومنشآت تخزين وتصدير المواد البترولية السائلة والسائبة ومنشآت تخزين مواد النفط الخام مع خط أنابيب بطول ثمانين كيلومترا من “رأس مركز” إلى مصفاة الدقم.

وهناك في الجوار مصفاة أخرى هي “مصفاة سيباسك” التي اجتازتْ بنجاح اختبارات التشغيل العام الماضي وبدأتْ إنتاج “حامض السيباسك” اعتبارا من فبراير من هذا العام ضمن استثمار عماني مشترك مع الهند.

هنا تستأنف عمان والصين المشي على طريق الحرير بتنفيذهما المدينة الصينية في الدقم، ولتضخَّان في التاريخ ما يجدد المسارات الملاحية التي دشنها ربابنة البحر منذ قرون وتوجت في العهد الزاهر الميمون بوصول السفينة صحار في رحلتها التاريخية إلى كانتون عام ١٩٨٠م ليبقى التاريخ دوما الملهم للحاضر والمستقبل.

وهذه شركة “بوسكاليس وستمينيستر عمان المحدودة” وهي تسابق الزمن في تنفيذ مشروع الرصيف النفطي في مجمع الميناء، وقد احتفلت مطلع العام الحالي ببدء الضخ التجريبي.

وهذه شركة “كولاس” الفرنسية وهي تلتحق بتحالف يضم أربعة من كبار المستثمرين ومزودي التكنولوجيا الفرنسيين ليعيدوا للبحار حوار الإمبراطوريات، وليجددوا الوشائج الممتدة لأكثر من ثلاثة قرون بين مسقط وباريس والمعمدة بالسفن الفرنسية المعانقة لموانئ عمان، وكأن مخزن الفحم في مسقط الذي جسَّرَ العلاقة مع باريس يعاود الاشتعال من جديد.

وهذا مجمع شموخ للصناعات التعدينية بما ينتطر أن يوفره من عشرات فرص العمل للشباب.

هذا “كراون بلازا” حيث تسطع الشمس من شرفاته لتفرك المدينة عينيها على شاي “الإنجلش بريك فاست” وعجائن “الكرواسا” وسلطة الأناناس.

وهذا فندق “سيتي هوتيل” حيث يحلو الغروب على كأس “الميشلي” البارد القادم من الدهاريز.

وهذا “راديسون بلو” المشغِّل لشقق وفندق “بارك إن” حيث تتعدد خيارات الضيافة العمانية.

وهذه “الأجنحة الفندقية” حيث تفضل العائلات “اللمة” وأجواء قهوة البيت و”إستكانات شاي العصاري”.

هنا “ليتل إنديا” حيث تضخ الهند مئات الملايين في أكبر منتجع سياحي يمتد لمساحة ٦٠٠ ألف متر مربع وبتكلفة تقديرية تبلغ ٧٥٠ مليون دولار ليضم فنادق وفيلات وشققا ومجمعا تجاريا ومرسى لليخوت.

وهذه البنوك التي تنتشر في البلدة لتوفر التسهيلات المصرفية، وهناك المجمعات الصحية الحكومية والخاصة المجهزة بأحدث التقنيات لتكون عند الحاجة لأي طارئ.

وهنا يلوِّن الشباب المشهد بالكثير من المرح والحياة وهم يقيمون البطولات الرياضية ليبقى العقل السليم المناط به صنع حاضر المكان بحاجة ماسة للجسم السليم الذي تبنيه الرياضات.

إنها الدقم المدينة العمانية الواعدة التي تضعنا بثبات على سكة المستقبل وقد تنادي العالم ليستثمر فيها وليضخ في أوصال اقتصادنا مليارات الدولارات، وليشاركنا صياغة الحلم وتبادل المنافع.

ولأن رأس المال جبان كما يقال فقد وجد المستثمر في الدقم البيئة المحفزة للأداء الناجح، لينافس على جني الأرباح واسترداد العوائد المجزية للأموال التي تم ضخها في ظل حزمة من القوانين والأنظمة واللوائح والقرارات التي تصون الحقوق وتحقق الطمأنينة لرؤوس الأموال لتتحرك بحرية وثقة.

وقد ألقت الحكومة بثقلها لجعل الدقم مدينة ذكية رقمية ينعم فيها المواطن والمستثمر والمقيم على حد سواء بكل ما يساعدهم على أن يعيشوا روح العصر وقد توفرت لهم التقنية الفائقة السرعة والجودة العالية التي تمكنهم من إنجاز أعمالهم.

وقد أنفقت الحكومة المليارات من الريالات في سبيل أن تكون الدقم البعيدة في الجغرافيا في قلب التنمية والحضارة والتمدن.

وكان التوجيه السامي لحكومته الرشيدة بألا تبتعد الدقم الحديثة عن سكانها بل تكبر بهم ومعهم، وليكونوا أوائل المستفيدين، فنقلتهم من أماكن السكنى القديمة إلى أخرى تليق بهم وبالدقم العصرية.

ووفرت لأبناء الدقم وولايات الوسطى فرص العمل في عشرات المواقع بالمدينة العمانية الواعدة.

وأعود من حيث بدأت لأتنفس مجددا تربة الأرض البكر كما رأيتها في ثمانينيات القرن الماضي دون أن أطأطئ رأسي هذه المرة توجسا من الزعانف الطويلة لمروحة الهليوكبتر، فأنا وغيري نستقلُّ اليوم طائرات “البوينح” إلى الدقم، وندحرج حقائبنا على ممرات من رخام ومرمر ونحن نستحث الخروج من مطار الدقم الدولي إلى “الهاي واي” لنمشي في مدينة المستقبل بخطوات واثقة وبرقاب مرفوعة.

إنها صفحة مجد أخرى تخطها ملحمة ٢٣ يوليو متمثلة في الدقم كهبة من هبات ومكتسبات واستحقاقات النهضة العمانية الشاملة.

وإذا كانت “تقليعة” تكبير الوجوه وتشويهها بالتجاعيد لاستشراف شيخوخة الغد كما انتشرت مؤخرا في الفيسبوك فإن الدقم تمارس تقنية العودة بالوجوه إلى ميعة الصبا والشباب ليبدو وجه عمان حيويا كالدقم ونابضا بالحياة كصخب حوضها الجاف وموانئها ومصافيها ومصانعها، وحالما كانتظار الفجر الصادق ليرتسم في السماء فتتلقفه المآذن فيبدأ في الدقم يوم جديد حيث تتلاقى القارات ويتسابق العالم.
—————————
هامبورج في ٢٢ يوليو ٢٠١٩م


Your Page Title