فضاءات

الشيخ حمود السيابي يكتب: بلجيكا.. الشطر الوجداني للوطن

الشيخ حمود السيابي يكتب: بلجيكا.. الشطر الوجداني للوطن
الشيخ حمود السيابي يكتب: بلجيكا.. الشطر الوجداني للوطن الشيخ حمود السيابي يكتب: بلجيكا.. الشطر الوجداني للوطن

 

رصد – أثير

كتب الشيخ حمود بن سالم السيابي مقالًا يتحدث فيه مملكة بلجيكا عمومًا ومدينة لوفان خصوصًا التي تشرفت بالمقدم السامي -حفظه الله ورعاه- في رحلته لإجراء بعض الفحوصات الطبية.

“أثير” رصدت المقال من صفحة الشيخ على فيسبوك وتضعه نصًا للقارىء الكريم.

“زرت بلجيكا أربع مرات فازدحم هاتفي بالصور والأساطير وكعك “الوافل”.

ورغم أن أولى الزيارات تعود لتسعينيات القرن الماضي إلا أن الكتابة عن أهم دول “البنلوكس” ظل مشروعي المؤجل دون خوف من التأجيل على تخمُّر نكهة عجينة “الوافل” ولا على تطاير سحرة الأراضي المنخفضة.

وقبل أن تهبط الطائرة نزوى على مدرج مطار بروكسل العاصمة السياسية لأوروبا كانت كل صور الزيارات الأربع النائمة في هاتفي تقلعُ فجأة من مطار انتظاراتي في رحلة لم تُجَدْوِلْهَا منظمة الطيران (الأياتا)، إذ لم يدر بخلد أحدٍ أن تتآخى الجغرافيا لتجعل من بلجيكا الشطر الوجداني للوطن، وأن نكتب اسم “لوفان” بالياسمين ونطلق أفلاج دارس والسمدي والجيلة والملكي والخطمين لتنساب في مجرى مياه “الميز” أحد أجمل أنهار شمال القارة الأوروبية.

أعود لصور الزيارات الأربع أو الشقاوات الأربع فتذبحني الصور والشقاوات.

واستنطق الدروب التي اغتابت الخطوات فتطول الدروب وتتعثر الخطوات.

أقلِّب ُالصور فتبعثرها المحركات النفَّاثة لنزوى فتتداخل أمكنةُ وتواريخ الزيارات الأربع ومناسبات وأماكن وزوايا اقتناص اللقطات، فأنا كما تقول الشاعرة البلجيكية “شارلوت فان دي بروك”:

“بالكاد أعرف نفسي
بين أنقاض النسيان وخزانة جدي وظهيرة الأحد”.


لقد زرت بلجيكا دون ضغوط عاطفية، وأتصفح اليوم حصاد التطواف بالكثير من الانفعالات والضغوط، فبلجيكا لم تعد مجرد مساحة أوربية تضيِّق عليها ألمانيا وهولندا ولكسمبورج الخناق بل هي اليوم امتدادنا العاطفي ووشيجتنا الجغرافية المشدودة بخطوط الطول والعرض مع المهج والأرواح.

وانتشل نفسي من زحام الصور وتشابكات الأماكن لأتوقف عند فندق “رينيسانس” أو فندق النهضة الشامخ في جادة “ريو بارناس” حيث أقمتْ، فوهْجُ الاسم وحده يقربني من عمان في زمن سيدها العظيم قابوس بن سعيد.

إلا أن الوهج الوطني للاسم سرعان ما يعتوره الرقم الأممي المخطوف لغرفتي والذي حمل رقم ٢٤٢ ليرتد سكينا في الخاصرة.

وقد يبدو الرقم ٢٤٢ مجرد رقم في فنادق الدنيا إلا أنه في بروكسل أكثر من مجرد رقم حيث يلتقي فيها ورثة سايكس بيكو الذين يرون العالم مجرد قطعة “وافل” وحيث يلتقي سلسة حلف الأطلسي لتغطية أماني الجنرالات في الاقتراب من تخوم الخطوط القديمة.

لقد أصدر الخمسة الكبار القرار رقم ٢٤٢ فأكل الكبار أكباد الرقم واقتسموا عينيه.

ويمر مشهد عناق شابين يتكومان داخل مظلتهما تحت نافذتي ومع ذلك أبقى في ظلم وظلامات الحلف وسياساته الذي يعكر وشوشات الشابين وضحكاتهما والمطر.

تواصل المحركات النفاثة لنزوى الهدير فأتساءل ما إذا كانت بلدة “لوفان” التي لا يفصلها عن عتبة الفندق سوى ثلاثين كيلومترا فقط باتجاه الشرق ضمن صور الهاتف؟.

أصحو من انفعال التقليب بأنها كانت خارج امتداداتي البلجيكية رغم القرب، وأنها لم تكن على تقاطعات خط السير رغم الشوق اليوم.

ووسط استغرابي للفضول الذي تملكني والذي أسرع بي إلى بلدة “بروج” قاطعا أكثر من ثلاثة أضعاف المسافة، ولتمخر بي السيارة السهوب لأكثر من مائة كيلومتر إلى الغرب من بروكسل لاتتبع روافد نهر “زوين” ومنحوتات مايكل أنجلو الطفل والعذراء.

ها أنذا أقلب ذاكرة زيارات لمملكة هي الأقرب لنا منذ صدور بيان ديوان البلاط السلطاني وعلينا أن نعيشها وتعيش فينا.

تركت الغرفة رقم ٢٤٢ تصارع التاريخ والمتآمرين فانحدر مشيا باتجاه الشرق أسابق المطر المتسكب من ميزاب فندق رينسانس أو النهضة وألاحق غصنا تفلتت بعض وريقاته فساحت على سواقي الشارع لتقودني لقصر الملك فيليب المحروس بتماثيل الأسود المتوثبة.

تذكرت مجددا الطائرة نزوى في مطار بروكسل وهي تجعل بروكسل غير بروكسل والزمان غير الزمان فرفعت الأكف لتتراسل مع السماء، ومسحتُ بقايا المطر على صور الدرب الذي مشيته وأنا أتضرع بأن تمطرنا البشارات بأخبار تسرع بالانتقال من لوفان إلى بروكسل فتعود مواكب السيارات بمراياها الماطرة إلى قصر الملك لويس فيليب ليوبولد فهذا هو الاستحقاق.

لم يكن حرس القصر متحفزا كالأسود التي تبدو في التماثيل فالملك فيليب والملكة ماتيلد يتدفآن في سكنهما الملكي الخاص في منطقة “لايكن” ولا يرتادان القصر الملكي إلا لأداء الواجبات الرسمية كقصر العلم العامر في عُمان.

كان القصر الملكي مهيبا إذْ احتاج قرنا ونصف القرن لبنائه حيث بدأ العمل فيه عام ١٧٨٣م وأعيد تصميم واجهته عام ١٩٠٤ لتبدو أقرب الشبه لمبنى الرايخستاغ الألماني أو البوندستاغ ليفتتح بشكله النهائي عام ١٩٣٤م.

وزاده المنتزه الواقع قبالته والمعروف بمنتزه بروكسل جمالا وحياة.

اقترب من القصر وقد هلهله المطر كما هلهل عدي بن ربيعة الشعر فَُُلُقِّبَ بالمهلهل فاكتستْ الجدران الحجرية القاسية غلالة الماء فقلَّلتْ من رعب الجدران.

أدخلُ الحدائق الملكية المفتوحة في المنتزه ومنها أواصل الانحدار باتجاه المنطقة الحيوية لبروكسل ليستقبلني تمثال “تشارلز كارل بولس” ضمير المدينة وعمدتها وذاكرتها العمرانية.

ما زال تشارلز على جلسته بشاربه الكث وما تزال العريضة المفتوحة في يده والتي لم يكمل قراءتها، بينما تناوم كلبه على فخذه.

جلست ككل البلجيكيين بجوار التمثال وخيالي يسرح في مسقط القديمة متسائلا: لو كانت التماثيل جزءا من ثقافتنا لكان تمثال الشاعر السيد هلال بن بدر البوسعيدي اليوم قبالة الباب الكبير لمسقط كرئيس للمجلس البلدي، وسوف لن يتناوم الكلب على فخذه بل سيمد يده لتعبث أصابعه بعُرْف مهرة أصيلة ف”يلملم الليل عن شعرها ويرعاه”.

وفي زفة من موسيقى الجاز للبارون “جان باتيست تيليمانز” وروائح “الوافل” و “الكريب” مشيت باتجاه سوق مسقوف على غرار سوق خور بمبه إلا أنه في بروكسل يبرق بالماركات وفي خور بمبه يفرض الآسيويون على سوقنا الظباء البلاستيكية والأرانب المخنوقة ب”خرخاش” وتفاق الماء.

أخرج من السوق المجاور للتمثال فأمشي إلى الأسفل صوب أزقة صغيرة ينطبق عليها وصف البلجيكية شارلوت بأن:

“بعض الأماكن صغيرة جداً
حتى إنها تلائم طرف الإصبع”


فتنتشر محلات “السوفيتير” ومتاجر بيع القمصان الموشحة بعبارة أنا أحب بروكسل أو المخضبة بعلم البلاد أو بأسطورة من أساطير المملكة البلجيكية.

هاهي “الجراند بلاس” حيث تقدم العاصمة السياسية لأوروبا بذخها وأناقتها لتعيدني الساحة لربع قرن من العمر يوم غشيتها في تسعينيات القرن الماضي بصحبة العزيزين سعيد بن خلفان الحارثي والدكتور أحمد بن ناصر الراسبي وقد جئناها بالقطار من دوسلدورف الألمانية.

كانت بروكسل يومها تفرش ساحتها بسجادة من الزهور التي تجتذب العالم.

أحاط الناس بهذه القطيفة الجميلة وكأنهم يختبرون معرفتهم بزهور الفصول وعطرها، إلا إنني سرعان ما انصرفت عن الزهور القصيرة العمر لأبقى في المعمار الخالد الذي يتأنق في مزهرية الزمان دون أن يذبل.

تنقلتُ ببصري في “الجراند بلاس” التي تئن بوطأة دار العمدة وكنيسة ميخائيل وبتمثال الطفل “مانيكن بيس” الذي يقال أن ساحرة مسخته إلى حجر بينما الحقيقة أن التمثال يرمز لطفل يعبِّر عن مقته للحروب بطريقته الخاصة.

كما تشتعل الساحة بعبق متاجر الشوكلاتة البلجيكية الشهيرة وتصايح الندامى الذين يحتسون الآثام.

وعلى ركن من الساحة التي أدخلتها اليونسكو أرشيفها الأممي يضطجع تمثال من البرونز للعمدة “إيفارد ساركاليس” وقد صقلته آلاف الأيدي التي تلمسه مع كل زيارة إذ تسود الخرافات بأن من سيلمسه سيعود لبروكسل، ولقد عدت للساحة بعد تلك الزيارة ثلاث مرات برفقة ابنيّ فيصل ومازن دون أن ألمس “إيفارد ساركاليس”.

أخرج من الجراند بلاس إلى ساحة بروكسل فتشمخ المتاحف والكنائس والتماثيل والأساطير والخرافات.

ومن ساحة توغل في قدمها كالجراند بلاس إلى ساحة تضج بروح العصر كالأوتوميوم بمجسمها اللافت إلى ساحة أوروبا بمعالمها الأروبية البارزة.

إلى عشرات الساحات والجادات والميادين التي اجتهد البلجيكيون لجعل كل شبر في بروكسل حكاية وبصمة.

ما زالت السماء تمطر كما تبدو في الصور، والأرض رطبة وقد غزلتها الخطوات، وشاشات الهواتف علاها السديم فتهدر المحركات النفاثة لنزوى فتمتزج الكلمات بالأمنيات.

أضغط على استوديو الصور من أجل عودة للكتابة عن بلجيكا يوم تحط الطائرة في المطار السلطاني الخاص بمشيئة الله ليهبط منها أعز الناس تسبقه ابتسامته وتمتمات شفتيه بالدعاء والشكر والثناء، وعندها ستتغير الكتابة والصور لتبقى “لوفان” مجرد ذاكرة في الجغرافيا الوجدانية.

وأعود من حيث أتيت إلى رينيسانس أو فندق النهضة وإلى الغرفة ٢٤٢ الأشبه بالقرار الأممي الذي يدعو لخطوط ما قبل ١٩٦٧ إلا أن أمريكا أكلت ثلاثة أرباع القرار وأبقت الربع ليتلاعب به بقية شركائها الأوروبيين.

أعود وبلجيكا تمطر كما هي مسقط تمطر اليوم.

أعود وفي فمي تباريح عروبة نزار قباني رفيق المشاوير وهو يوشوشني:

“أحاولُ منذ الطُفولةِ رسْم بلاد
تُسمّى – مجازا – بلادَ العَرَب
تُسامحُني إن كسرتُ زُجاجَ القمر
وتشكرُني إن كتبتُ قصيدةَ حب
وتسمحُ لي أن أمارسَ فعْلَ الهوى
ككلّ العصافير فوق الشجر
أحاول رسم بلاد
تُعلّمني أن أكونَ على مستوى العشْقِ دوما
فأفرشَ تحتكِ، صيفا، عباءةَ حبي
وأعصرَ ثوبكِ عند هُطول المطر
أحاولُ رسْمَ بلاد
لها برلمانٌ من الياسَمين
وشعبٌ رقيق من الياسَمين
تنامُ حمائمُها فوق رأسي
وتبكي مآذنُها في عيوني.
أحاول رسم بلادٍ تكون صديقةَ شِعْري
ولا تتدخلُ بيني وبين ظُنوني
ولا يتجولُ فيها العساكرُ فوق جبيني
أحاولُ رسْمَ بلاد
تُكافئني إن كتبتُ قصيدةَ شِعْر
وتصفَحُ عني، إذا فاض نهرُ جنوني”.











Your Page Title