يوسف بن عبدالله بن مبارك الغنبوصي- كاتب عماني
منذ بروز حادثة اختيار النقباء في بيعة العقبة الثانية في العصر النبوي ومرورا بممارسة نبوية شوروية في شؤون المعارك والأمور العامة للدولة آنذاك ثم التطواف السريع بحادثة انعقاد اجتماع عدد من الصحابة بشكل اتسم بالعفوية تحت قبة بني ساعدة (السقيفة) بهدف اختيار الخليفة الأول بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثم التأمل في المنعطف الأكبر في التاريخ الإسلامي والذي تمثل في أهل الشورى الستة الذين اختارهم الخليفة الثاني عمر الفاروق رضي الله عنه ليكون الخليفة من بعده في واحد منهم، وأيلولة أمر هؤلاء الستة بعد تنازل ثلاثة منهم إلى ثلاثة متنافسين على منصب الخلافة، هم: عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهم ثم تنازل ابن عوف عن المنافسة بشرط أن يتعهدا له بالسمع والطاعة في من سيختاره من بينهما خليفة بعد مشاورة الناس واستشفاف رأيهم.
وقد أشارت بعض المصادر التاريخية إلى أن ابن عوف أجرى محادثات واسعة مع كثير من كبار الأمة في ظل ظروف سياسية عصيبة وحرجة من تاريخ الأمة الإسلامية، وأنه صال وجال في القرى والأمصار بالمدينة المنورة وما حولها واستشار الجم الغفير ما استطاع إلى ذلك سبيلا، بل ذهب بعض المؤرخين إلى أنه استشار حتى النساء في حجابهنَّ والأولاد في الكتاتيب (البداية والنهاية لابن كثير، 7 / 146)، وهذه الرواية تمثل تطورا واسعا في تطبيق الشورى، وأن أفق المشاورة حلق عاليا وبلغ ما لم تبلغه حضارة من الحضارات المتقدمة ولا اللاحقة، فهي سابقة في الممارسة السياسية باستشارة جميع فئات الأمة ذكورها وإناثها، كبارها وصغارها، حاضرها وباديها، غنيها وفقيرها، سرا وعلانية، مثنى وفرادى ومجتمعين.
بعد هذا التطور الكبير في جانب الشورى ظلَّ بعدها مقتصرا على بعض الشؤون العامة لدى الملوك والخلفاء، ولم يتطور كممارسة حقيقية إلا هنا وهناك وعلى فترات متقطعة في التاريخ الإسلامي، لكنه ظل حاضرا في ذهنية الفقهاء ومنظري السياسة الإسلامية حتى نشأ مصطلح جديد للشورى في القرن الرابع الهجري أطلق عليه ” الحل والعقد ” في أوائل القرن الرابع الهجري، ولاقى هذا المصطلح رواجا كبيرا في الأمة الإسلامية بكافة مدارسها الفقهية ومناهجها السياسية، لأنه أبرز في واجهته وظيفتيْن مهمتين تمثلان الأدوار الأساسية المطلوبة من الشورى حسب تصورهم وهما: وظيفة (الحل) أي النقض والتفكيك، ووظيفة (العقد) أي الربط والإبرام، وهو ما قد يعبر عنه في الخطاب السياسي المعاصر بعملية المشاركة في صنع القرار أو إلغائه.
هذا إذا ما تم الاتفاق بشكل تام على تلازم هاتين الوظيفتين (الحل والعقد) في مفهوم الشورى إذ إن الوظيفة الجديدة المضافة لأدوار أهل الشورى وهي وظيفة (الحل) مثار نقاش وتساؤل : هل هي اجتهادية أم منصوص عليها شرعا ؟ مع التسليم بأنه لا يوجد مانع من استحداثها وإضافتها ضمن صلاحيات أهل الحل والعقد ولكن الاشكالية التي سببها هذا التعبير الجديد في اعتبارها إلزامية وأنها حق ديني مستمد من النصوص، في حين أن البعض يذهب إلى أنها مسألة اجتهادية قابلة للأخذ والرد وللزيادة والحذف، وفقا للمعطيات التاريخية والسياسية للدول والشعوب.
من هم أهل الحل والعقد ؟ إن أوسع التعاريف التي حددت فئات أهل الحل والعقد في العصور المتأخرة هو ما ذهب إليه الإمام محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا حيث قالا : إنهم ” الذين تثق بهم الأمة من العلماء والرؤساء في الجيش والمصالح العامة كالتجارة والصناعة والزراعة وكذا رؤساء العمال والأحزاب ومديرو الجرائد المحترمة ورؤساء تحريرها” ( تفسير المنار،5/152) .
ولا يغيب عن البال ممارسة العمانيين للشورى فمنذ وصول رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملكي عمان بدعوتهما للدخول في دينٍ جديد وهو الدين الإسلامي، فقد قال الملك جيفر لعمرو بن العاص: ” إن الذي يدعو من جهة صاحبك أمر ليس بصغير وأنا أعيد فكري وأُعْلِمُكَ ” وهذه الرواية تدل على عقل ناضج وحكمة متأنية في اتخاذ القرارات المصيرية للأمة ولربما كانت ممارسة معتادة لدى ملوك عمان في مثل هذه القرارات الكبيرة، فاستشار جيفر جماعةً من الأزد وبعض وجهاء عمان وخلصوا إلى قرار مصيري كان سببا في تغيير الهوية الدينية لأهل عمان وما يتبعها من تغييرات اجتماعية وثقافية، وهو قرار الاستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والدخول في دين الإسلام، وسجلت هذه الحادثة أعظم وأول شورى على المستوى السياسي في العصر الإسلامي لدى العمانيين، وهل هناك شورى حققت مصلحة عظمى لعمان وأهلها أعظم وأكبر من دخولهم في دين الله الخالد؟.
ثم تتابع العمانيون على توظيف الشورى في صد هجوم الأمويين المتكرر على عُمان، مرورا باختيار أحد أحفاد الملك جيفر بن الجلندى إماما لعمان وهو الجلندى بن مسعود بن جيفر عام 132هـ/749م، وهكذا حتى وصل الأمر إلى الفكر الحضاري المعاصر للعمانيين حيث ظهر مصطلح ثالث لأهل الحل والعقد وهو (التمثيل النيابي) المتجسد في مجلسي : الدولة والشورى، اللذان يشكلان بمجموعهما مجلس عمان، فأعضاء مجلس عمان يمثلون السلطة التشريعية ويعدون وكلاء الشعب ونواب الأمة بالإسهام في صنع القرارات أو السعي إلى إلغائها أو تعديلها تبعا للمصالح الوطنية العليا.
وبالعودة إلى نظرية الحل والعقد في حياة العمانيين المعاصرة ذات الصلة بنظام الحكم في الدولة فيمكن تسليط الضوء عليها من خلال وثيقة التشريع العظمى أو الدستور أو ما يسمى لدينا في سلطنة عمان بالنظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني السامي رقم (101/96) وتعديلاته الصادرة بالمرسوم السلطاني رقم (99/2011) ، إذ بإمكاننا أن نستقرئ نظرية أهل الحل والعقد في ثلاثة مواطن أو ثلاث حالات؛ حالتين طارئتين ظرفيتين جاءتا لأداء مهمة معينة وخلال فترة قصيرة ثم تنتهيان بانقضاء المهمة المطلوبة، وحالة دائمة مستمرة لأهل الحل والعقد وإن كانت الشخوص قد تتغير مرة كل أربع سنوات إلا أن المهمة ذاتها مستمرة على المنوال نفسه بديناميكية وحركة دائبة لأداء مهمة التشريع والرقابة.
أولاً : الحالتان الطارئتان لأهل الحل والعقد :
أ. اجتماع مجلس العائلة الحاكمة الذي ينعقد في حالة شغور منصب السلطان لاختيار من ينتقل إليه الحكم بدعوة من مجلس الدفاع أو بانعقاده مباشرة بقوة القانون. (النظام الأساسي للدولة مادة رقم 6 ) ( المرسوم السلطاني 105/1996م بشأن مجلس الدفاع ).
ب. قيام مجلس الدفاع بالاشتراك مع رئيسي مجلس الدولة ومجلس الشورى ورئيس المحكمة العليا وأقدم اثنين من نوابه : بتثبيت من أشار به السلطان في رسالته إلى مجلس العائلة، وينتهي دورهم بانتهاء المهمة وبعد أداء السلطان اليمين الدستورية في جلسة مشتركة لمجلسي عمان والدفاع في حين أن ممثلي السلطة القضائية ( رئيس المحكمة وأقدم اثنين من نوابه ) ينتهي دورهم بعد انقضاء مهمة التثبيت وقبل أداء اليمين.
فالحالتان الطارئتان وجدتا حالة شغور منصب السلطان وهدفهما إما الاختيار أو التثبيت ثم تنتهي مهمتهما إلى حين شغور المنصب مرة أخرى .
ثانياً : الحالة الدائمة لأهل الحل والعقد هي المتمثلة في مجلس عمان بغرفتيه الدولة والشورى، وقد يلوح تساؤل هنا : لماذا غرفتان وليس غرفة واحدة ؟ لماذا برلمانان أحدهما معين والآخر منتخب ؟ فالجواب أن يقال بأنه غرفتان بناء على فلسفة عميقة ذات دلالات سياسية واجتماعية وتاريخية، إذ إن اختيار أعضاء مجلس عمان -وهم أهل الحل والعقد- يتم بالمناصفة بين السلطان والشعب في اختيار أعضائه ، ثم تبرز فلسفة أخرى داخل تلك الفلسفة الأوسع وهي أن اختيار أعضاء مجلس الدولة عبر تعيين مجموعة من أهل الرأي والعلم والفضل والثقافة والشخصيات ذات الثقل الاجتماعي والحنكة السياسية والخبرة المهنية والكفاءة العسكرية، لأجل تعويض بعض النقص في الكفاءات من أهل الحل والعقد والذي قد ينشأ – لا قدر الله – عند انتخاب أعضاء الشورى، فكان هذا الاختيار بالتعيين لمجلس الدولة حرصا على تكامل المجلسين حتى يتجانسا ويتناغما في أداء مهامهما البرلمانية، وهذا ما رأيناه عمليا على أرض الواقع في اللقاءات المشتركة للمجلسين : الدولة والشورى.
فمن الملاحظ أن مفهوم أهل الحل والعقد في النظام الأساسي لم يقتصر على التمثيل النيابي في مجلسي الدولة والشورى بل تعداه إلى موضوع سياسي أكبر وهو دور الاختيار أو التثبيت – كما سلف – في ظل ظروف دقيقة وحرجة من حياة العمانيين يتعلق بقرار استراتيجي يؤثر بعمق على حاضر ومستقبل الواقع السياسي برمته في السلطنة.
وهذا يلقي بظلاله على قضية توسيع مفهوم أهل الحل والعقد وقابليته للتمدد وفق الرؤية السياسية العمانية، فهو ليس بصيغة جامدة بل في إبداع مستمر ويتمتع بالمرونة والاتساع وقابليته على استيعاب التحديات السياسية والاجتماعية التي قد تمر بها البلاد، إذ إنه يسمح بتوسيع أدواره وصلاحياته حسب الضرورة ثم ما يلبث أن يعود أدراجه لممارسة أدواره التشريعية والرقابية على شؤون الدولة من خلال مجلس عمان، ثم قد يتوسع مرة أخرى إذا اقتضت الضرورة وهكذا دواليك؛ على نسق القاعدة الفقهية الشهيرة التي تنص على أن الأمر: ” إذا ضاق اتسع، وإذا اتسع ضاق ” اتكاءً في ذلك على تراث الوطن وقيمه وشريعته الإسلامية.
ونخلص من ذلك بأن نظرية الحل والعقد هي ترتيب دستوري مبتكر منذ العصور الإسلامية الأولى وقد شارك العمانيون في الماضي والحاضر في بلورتها وإعادة صياغتها والدفع بها نحو الأمام وتفعيلها في جميع مناشط الحياة، بل لها في عمان مذاق خاص ونكهة ذات عبق تأريخي تليد، يحق لنا أن نفتخر بها ونشارك بها الآخر، وقد رسم خاتمتها جلالة السلطان عاهل البلاد المفدى – حفظه الله – ، إذ صاغها بأنامل ذهبية على لوح عمان التالد الطارف المملوء بالثراء المعرفي والثقافي والسياسي، المتجذر في إرساء قيم الشورى والحرية والعدالة والمشاركة المجتمعية، ولا غرو أن من يقرأ كتاب الباحث العُماني الأخ العزيز / محمد بن خلفان العاصمي “المفكر” الذي تتبع فكر جلالته سيغوص في أعماق هذه العبقرية العظيمة والتعرف على فلسفتها ذات الدلالات العميقة،. والسلام بدءًا وختامًا.