عائشة بنت عبدالله بن محمد المجعلية- باحثة تربوية ومُدربة
تعلّقت الدراسة في جميع المؤسسات التعليمية حتى إشعار آخر، لكنها لم تتوّقف، ومع هذا القرار صدرت قرارات مُوازية له من المؤسسات التعليمية تدعو إلى استمرارية التعليم عن بُعد بأشكاله وأساليبه المُتنوعة، لعل أبرزها: التعليم الإلكتروني، وشيئا فشيئا أصبحت هذه الطريقة السهلة والمُتاحة طريقة للتعليم في جميع أنحاء العالم.
ومع اختلاف الأمكنة وفي هذه الظروف الاستثنائية، توّحدت طريقة التعليم لدى طلبة العلم مع اختلاف أساليبها، واعتمد التعليم عن بُعد -هذه الطريقة القديمة العهد- التي بدأت مع تطور الخدمات البريدية في القرن التاسع عشر، ثم استعان بها “اسحاق باتيمان” في بريطانيا كطريقة تعليم بتدريسه الاختزال بالمراسلة، وبهذا كانت البداية الرسمية للتعليم عن بعد عام1840 .
فبات التعليم أكثر سهولة في طلبه، حيثُ أُلغيت المسافات المكانية والأُطر الزمنية، فلا يُطلب من الصين ولا من الفصول الدراسية، الآن يُطلب العلم عن بُعد أكثر من أي وقت مضى.
فهل تخلّى طلب العلم عن مشقته؟ أم تنازل طالب العلم عن صفة البحث والجَلد والشغف؟؟.
مع مرور الوقت أدركتُ كم أننا ألفنا اليُسر في التعليم، وكم كان طلب العلم سهل المنال، ذاك الطلب الذي ارتبط قديما -وإلى عهد بنا قريب – بالسفر والغربة والمشقّة والعناء كما وُصف في كتب التاريخ ونُقل إلينا من رحلات طلاب العلم، تلك الرحلات التي استغرقت بعضا من العمر أو كله، كرحلة العالم الجليل “الحافظ ابن مندة” التي استمرت خمسة وأربعين عاما.
ومع إدراكي السابق فأنا أُفكر في مدى حتميّة العلاقة بين المشقّة في طلب العلم قديما وقوة ثباته واستحقاقيته، والعلاقة بين اليُسر في التعليم وسهولة تحصيله حديثا وضعف ثباته واستحقاقيته.
وأعني في مقارنتي هذه بطلب العلم في مدارسنا النظامية، وبطالب العلم النظامي.
في رواية للإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ : “حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار منه، والصبر على كل عارض دون طلبه…. ” إلى آخر حديثه الذي ربط فيه طلب العلم بالصبر عليه.
وفي هذا المعنى قرأتُ مرة في طرائف العرب، حين أراد الباجي أن يُبرّر هزيمته المعرفية على يد ابن حزم، فأسند حُجته إلى فقره أيام الدراسة قائلا: “اعذرني فقد كنتُ أدرس معظم الوقت في ضوء سرجِ العَسس في الليل”. فرّد عليه ابن حزم قائلا: “ولسوف تعذرني أنت أيضا؛ لأن معظم دراستي كانت على منابر الذهب والفضة”. قاصدا بذلك أن الثراء والترف من مشاق طلب العلم أيضا، فكلاهما أسندا علمهما إلى المشقة سواء أكان فقرا أم غنى.
وفي كنف الاعتقاد والاحتمال سأجيب عن سؤالنا الأول: هل تخلّى طلب العلم عن مشقته؟ أم تنازل طالب العلم عن صفة البحث والجلد والشغف؟؟ باعتقادي أن المشقّة في طلب العلم ستظهر بصور مختلفة هذه المرة، حين يواجه الطالب تعدّد الطرائق ومنصات التعليم، وتنوّع مصادره والتحدّي الأهم في هذه المرحلة كيفية التعامل مع التدفق المعرفي الإلكتروني مُعتمدا على تعلمه الذاتي في ظل غياب المعلم وأدوات التقويم المباشرة.
ستظهر المشقة في تعاطينا مع الكمّ المعلوماتي المُختزن رقميا، فأنا شخصيا أرتحلُ يوميا بين ثلاث منصات تعليمية رسمية في السلطنة. ستظهر المشقة في انتظامنا في طلب العلم في وقت سقط فيه التكليف الرسمي والمتابعة المباشرة والتقييم الكميّ، سنستشعرُ الصبر في متابعة أبنائنا ومشاركتنا في تقييم عملية التعليم عن بُعد.
وقد ينالنا العناء والتعب في التعامل مع متغيرات كثيرة منها الوقت الفائض والذي سيبرز كمتغير مشتت في هذه الرحلة التعليمية، فكثيرا ما يكون الوقت الفائض مشكلة في تحديد الأولويات، وسيكون تحدّيا صعبا نسبيا في إدارته والتحكم به بالنسبة للطالب ومن يتابعه فالمنافسة صعبة وليست بالهينة مع وجود المُلهيات والمشتتات الأُخرى. وفي ذلك رجعت للتجربة التعليمية الفنلندية التي بدأت قبل عقدين من الزمن، حين صرح رائدها “باسي سيلبرغ” بأن التعليم عن بُعد وإن بدا سهلا لكم لكنهُ على النقيض تماما، به من المشقة الكثير.
وأخيرًا ….لا أخفيكم سرًا ، بشعور الطمأنينة الذي تسرّب إلي وأنا أُدرك أن حتى التعليم عن بُعد قد يكون شاقا ويتطلب الصبر والجلد والشغف وينطبق عليه القول: ” والعلمُ لا ينال إلا على جسر من التعب والمشقة “.
فنحن لا نطمئن لتعليم بلا تعب بلا قلق بلا سهر، تعليم بلا فرقعة أصابع أو آلام ظهر أو صُداع.. ببساطة لا نطمئن لتعليم مريح.
لذلك، تجلّدوا بالصبر واطلبوا العلم ولو عن بُعد.