د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
لقد شاءت ارادة الله عز وجل أن يكون عيد الفطر السعيد لهذا العام على غير ما نتوقع وبعكس ما نرجو ونرغب، ” تجري الرياح بما لا تشتهي السفن” ولله الحكمة البالغة في كل شيء” لتصل بنا الأمور إلى حيث ما نرى، وتتجه إلى ما نحن عليه الآن في ظل ما فرضته علينا جائحة كورونا (كوفيد١٩) من واقع وما الزمتنا به من سلوك ووجهتنا إليه من مسار، نصبح ونمسي في منازلنا، محافظون على توازننا وانفعالاتنا من أن تلطخها أيدي المجازفة والعبث بالنفس وإلقائها إلى التهلكة، ملتزمون بالبقاء في مساكننا، محققين القرارات الصادرة من اللجنة العليا المكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا (كوفيد19)، في تحقيق اقصى درجات الحيطة والحذر، وأعلى درجات الوعي والالتزام بإجراءات التباعد الاجتماعي وتجنب الاتصال الجسدي، حاملين لواء الصبر وقوة التحمل والرضا بالقضاء والوقوف عند المقتضى والأمر الرسمي الداعي إلى البقاء في المنازل ومنع الاختلاط، مجتهدين بان نكون سببا في زوال الغمة وانتهاء الجائحة، صابرين محتسبين متوكلين على الله، جاعلين من سلوك الاتزان الذي نمارسه وروح المسؤولية التي ندركها، طريقنا لبلوغ الامل والحد من انتشار المرض، واضعين القرارات الداعية إلى منع التجمعات العائلية في كل المناسبات الاجتماعية طريقنا الذي يجب أن نسلك وعملنا الذي يجب ان نتخذ لتتجه بنا السفينة إلى بر الأمان شامخة في ظل أمواج كورونا ومستجداته وأحداثه ” بسم الله مجريها ومرساها” .
” بسم الله مجريها ومرساها” .
ولما كان عيد الفطر السعيد قد قدم يزف إلينا تهانيه، ويرفع من سقف توقعاتنا فيما يحمله هذا الدين العظيم من فضائل الخير وقيم الاحسان، داعيا للحياة في أجمل صورها، والسلام في أعظم تفاصيله وأدق مواقفه في ظلال الصحة والعافية، فهي قوة المجتمع وسموه ونهوض مستوى وعيه ورقي سلوكه، فقد جاءت قرارات اللجنة العليا المنعقدة بتاريخ 18 من مايو 2020، مؤكدة على حظر التجمعات المرتبطة بالعيد مثل هبطات العيد بمختلف أنواعها وصلاة العيد وتجمعات المعايدة والاحتفالات الجماعية بالعيد نظرا لخطورة مثل هذه التجمعات على نشر المرض في أوساط المجتمع؛ فهي واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار فهي لا تحتاج الى تفسير متوافقة مع فطرة الانسان المنطلقة من مقاصد الشريعةالاسلامية الغراء التي نحتفي فيها بأحد اعياد الاسلام العظيمة ( عيد الفطر السعيد) ومحققة للصالح العام الذي ينأى بالمجتمع عن كل نقص ويبعد عنه أي تشويه؛ وما يحمله العيد من مفاتيح الامل ومصابيح العمل وروح المسؤولية وسلامة النهج وسمو الغاية ونبل الهدف وحب الخير للنفس والأخر؛ ويؤسسه في فلسفة الحياة من سلام النفس وصدقها وسعيها نحو تحقيق أعلى قيم الخيرية في تضامن وتكاتف وتعاون وتفاعل كالجسد الواحد يشد بعضه بعضا مواساة للمحتاجين والضعفاء وعطفا واحسانا على الاطفال والكبار، وعبر تعميق روح المسؤولية، وتأصيل قيم المحبة والخير،وتقريب اواصر التواصل والتعاون من غير ضرر ولا ضرار او تنغيص او استهتار او خروج عن المألوف من الاعمال والأقوال، او استخفاف بأي توجه يحفظ هذا الحق ويديمه ويحافظ على قيمته في تحقيق أعلى درجات الصحة والأمن والعافية، حتى وان انقطعت اللقاءات وتجمعات الأهل وزيارات الأرحام والأقارب والجيران، او تركت سنن العيد من خروج الى صلاة العيد والتقاء الناس ومصافحتهم على بعضهم، لتزول حواجز المكان وتنصهر في وداد القلب وذكر النفس، ليفتح الله لهم الآمال الكبيرة بما أنعمه على الانسان من بدائل وأتاحه لهم من فرص وتيسرت لإنسان العصر من ظروف ازدانت بها حياة الانسان اليوم اكثر من اي وقت مضى، لتتجسد في قيم العيد ومبادئه وأخلاقياته قوة التأثير الزماني والمكاني ، ليتجاوز حدود الأشخاص والأشياء، وتتفوق رابطة التواصل الروحي على الاتصال الجسدي واللقاء المباشر، إذ العبرة أن تصل نواتج الخيرية إلى حيث الغاية والهدف؛ أنها مساحة متجددة تعبر عن مزيد من الشعور الإنساني والحب الفطري لتتجسد إنسانية الانسان الذي يفوق كل المصالح الشخصية ويتجاوز المقاييس التي تقرأ الآخر بميزان المادة، ليمارس الاحسان والمعروف والحب والنفقة والبر والصدقة والكلمة الطيبة بضغطة زر ورفع بسماعة هاتف، ليتبادل مع أحبابه وأصحابه وأهله تهاني العيد ، متجنبا الزيارات بين الأسر، ملتزما العمل بالقرارات متخذا من نهج التفكير الجمعي في الحد من انتشار المرض طريقه ومصدر قوته وأمانته، ليكون في موضع الثقة وقدر الفارق الذي عليه أن يصنعه بالتزامه، فيقوى بكل فخر على مقاومة هواه وردع رغباته وتقنين برنامجه اليومي في العيد وضبط عاداته وترك ما استهوته نفسه في خروج من المنزل أو لقاء بالأصدقاء أو الترويح بالذهاب إلى الاماكن العامة والمتنزهات وغيرها من الأمور التي اعتادت عليها الناس في العيد، فالقول الحسن ولطف الكلمة لا يرتبطان بمكان محدد او زمن معين او يجب أن يتم تحقيقهما بلقاء مباشر وجلوس على طاولة واحد ومائدة غداء او عشاء أو تقريب أصناف الفواكه ولذي الأطايب حتى وإن تعقدت الظروف وتعسرت الأحوال، فإن من يظن أن قيمتها في الهاتف متدنية وأثرها عبر الاتصال الهاتفي منقطع او صلاحيتها منتهيه، واهم بفكره ضال بتفكيره، غير آبه بما عليه في حق نفسه ومجتمعه ووطنه؛ لتبقى التهاني عن بعد والاتصال عبر الهواتف المحمولة أو المعايدة عبر منصات التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي خيوط ممتدة ولقاءات مستمرة لن تضعف قوتها الايام او تثنيها عن عزمها الاحداث والظروف او تقف في وجهها المطبات، فهي خير يمتد اثره ونهج لا ينقطع حبله،لتؤدي ما صعب الوصول اليه بالأقدام، وتعقدت عوامل تحقيقه في الواقع، لتبقى سنن العيد منصات لقاء روحية، وتجسيد لعظمة النفس بما تحمله من وداد التواصل مع الاخر.
ومع ما أشرنا إليه من التزامنا بكل التوجهات والقرارات التي أرادت لنا الخير، وتحقيق المصلحة، وتجنيبنا المرض، ووقايتنا من كل باس وضرر؛ إلا أن ذلك لا يمنعنا أن نعبر عن ما يعتصر قلوبنا من ألم وحزن، ويُبقى مشاعرنا غير قادرة على تصور الأمر، لتمر علينا بهجة عيد الفطر السعيد هذا العام على غير ما تعودنا،وتأتينا على غير ما توقعن، وتضعنا في موقف لن نُحسد عليه أو نُلام فيه بغير ما رجونا ورغبنا، حاملا مِعه احزانا كبيره، وآلاماثقيلة، ومواقف كثيره، ضارعين إلى الله عز وجل أن يذهب عنا الأحزاب ويقينا شر الفتن والأمراض والأوجاع والأسقام، إذ لم يكن بذات العيد الذي الفناه وعايشناه نحن ولا اباءنا أو أجدادنا، ليُحدث كورنا ( كوفيد19) في مفاهيم الحياة الاجتماعية شروخا كثيرة، وفجوات عميقة، ويُصيب مساحات السعادة والسرور والحبور التي نعيشها وننتظرها في أعياد الاسلام ومواسمه العظيمة بسهامه الخفية وإصاباته البالغة التي تشهد كل يوم ارتفاعا مشينا وصعودا محزنا، ولم يكن لتلك الاحلام التي تزهر ربيعا ونح نعيشفي عيدي الفطر والأضحى حياة جديدة ومواقف متجددة وظروف عمل استثنائية وتكاتف جسدي منقطع النظير والتقاء يفوق غيرها من الأيام ، ان تُبقى الناس في حالة من الترقب والخوف على انفسهم واطفالهم وابائهم وامهاتهم وارحامهم وجيرانهم واقاربهم،فقد استبدل عيدنا هذا العام مساحات اللقاء والتعايش الاجتماعي والترفيه الجسدي والهروب من زحمة الأعمال وانشغال الناس، بالبحث عن العافية ولَم يعد للأشكال التعبيرية والمصافحة وصلاة العيد، تلك التي تميز خصوصية العيد في فرحة الصغار والكبار وضحكاتهم وسرورهم وهم يتلقون العيدية، أو اصوات اللحن الاصيل والطرب المغنى والفن الاصيل كالرزحة والعازي والبرعةوالاهازيج الشعبية ومهرجانات العيد الترفيهية والمغناة والرقصات الشعبية وسباقات الخيل والهجن وغيرها كثير؛ لم يكن اليوم لها حضورها في ذاكرة العيد، في حالة افقدت العيد خصوصيته واضاعت فرحته وسلبت امنياته واضاعت تراجيده، لتأخذها احداث كورونا وتسلبها من قاموسه وتبقيه وحيدا يتيما “عيد بلا عيد”؛ فما أقساك “كورنا” وانت تسلب فرحتنا وتضيع ابتسامة، وتزيل أعذوبةلقاءنا، ما اظلمك وانت تستبدل ضجيجنا وضحكتنا بحالة من الهدوء والخوف وتسلب منا انشودة العيد وجماله في وجوه أطفالنا ودموع أبائنا ومهاتنا وأرحامنا وأقربائنا، لتتركنا في بيوتنا مكبلين بأغلال الخوف وقيود المخاطرة، وتنتزع منا مساحات الوفاء لنرضي غرورك وانت جاثم على صدورنا فلا مرحبا بك، فأنت لست مرغوبا بيننا ولا مقبول فينا، لقد أضعت هاجس الود وحبل اللقاء وجسور التواصل ومحطات الاجتماع ومتعه الحياة في جماليات العيدولقاءات الأهل، وهل من أمر أصعب على النفس وأشده على القلب، عندما تبعدنا ايام العيد عن من نحب، عن والدينا واخوتنا واهلونا وارحامنا، ليغير كورونا موازين العيد ويضيع افراحه ويلغي ابتسامته ويزيل نظارته، وكيف يبتسم من صعب عليه السلام على والديه او كيف يهنا العيش وينعم الانسان وبينه ووالديه مسافة لا تذكر من الزمان وهو غير قادر للوصول اليهم خوفا من أن يتسبب في أذاهم أو يصبح طريقا لضياع ابتسامتهم وضحكتهم بنقل الفيروس لهم فالله المستعان وهو المرتجى.
وتبقى بهجة العيد حياة متجددة وروح متأصله، ممزوجة بمساحات اللقاء وانس الاصحاب وزياره الاهل والجيران والأصدقاء، مرحلة تقترب فيها الافئدة وتتصافح فيها القلوب قبل الاجساد وتتعايش خلالها المشاعر والاحاسيس وتنمو فيها روح الود والحب والتقارب، ليطرق الاخ بيت اخيه ويأكل الصديق من بيت صديقه، ويلتقي الاخوة جميعهم ومع اسرهم في بيت العائلة الكبير يعيشون حياة اللقاء ويتسامرون على ضحكات الانس وذكريات الايام في بيت يحتضنهم جميعهم وام تحتويهم جميعا واب ينتظرقدومهم بفارغ الصبر والشوق، لذلك لم يكن عيدنا كغيره من الاعياد التي مرت، مغيبا خيوط الذكريات وصور اللقاء العائلي والتجمع البلدي بين اهل البلدة وهم يصلون صلاة العيد يصافحون بعضهمالبعض ويتسامحون من بعضهم البعض، قاتمة تحتاج إلى تحديث؛ ليترك ” كوفيد19″ في حياتنا شرخا كبيرا وفجوة عميقه وسلوكا يفتقر لكل تلك المحطات الجميلة؛ ما اصعب الامر على من اعتاد ان يجعل عيده مساحه تجديد للحياة، وتقييم لما يكنّه من مشاعر وفرصة للتعويض عن حجم القطيعة للأرحام وقلة الزيارات التي يقوم بها لأهله ولكبار السن، ليصنع في العيد فارقا ومتنفسا له ومددالحياته القادمة، فينتظر الجميع لقاء العيد بفارغ الصبر والشوقويلتمسون فيه محطة بناء الحياة في ثوب السعادة والايجابية والفرح والحب والتعاون والتكامل والسلام والتعايش والمودة والرحمة.
كفاك كورونا ” كوفيد19″ سخرية بِنَا وتضييعا لما اعتدنا، ارفق بِنَا وارع مشاعرنا، فان هناك من يحزن لنا وينتظر لقاءنا ويسعد بوجودنا، فاخرج الى حيث ارادك الله واتركنا بخير، ومع كل هواجسنا وما تركته فينا من خوف وقلق، ندرك حتما قيمة أن نبقى في منازلنا، وعظمة أن نلتزم بتعهداتنا، وأهمية أن نصنع من أنفسنا قدوات، لنعلي من شأن فضائل النفس ودوافع الخير التي تجنبنا الضرر وتقينا العثرة ، فها هو العيد لهذا العام يغير ثوبه، ليرتدي ثوب العافية ويلبس لبوس الصحة والسلامة، فما أعظمه من ثوب وما أجمله من لباس، وما أنصعه من شعور وأحسنه من حلية؛ إذ العافية التي ننشدها اليوم في ظل جائحة ( كوفيد 19) طريقنا لفرحة مستمرة وحياة مستقرة ، ومحطة قادمة لاجتماع الشمل واسعاد الحياة، لتصبح العافية التي نرجو والسلامة التي نصبو إليها، مساحة امان نعيشها من اجل الحياة والحب والامل والسعادة التي هي مدركات للعيد وثماره لننشط بها في أداء متطلباته والالتزام بتحقيق سننه ودلالاته، لنجعل من عيدنا لهذا العام عيد العافية فهو عنوان نجاحنا في تحقيق عيد بسمو بأذواقناويتناسب مع رغباتنا ويلبي أولوياتنا، لنتجاوز المنغصات ويعيش فيه الجميع بسلام واطمئنان في قادم الوقت بين اهلنا وارحامنا وابناءنا وهم ينعمون بالصحة والعافية ، ولنجعل من عيدنا لهذا العام محطة لإنتاج الحياة وهندسه الواقع، لنفرح اكثر ونلتقي بمشاعرنا ونرتقي بأفكارنا بشكل افضل في ظلال السلامة وثوب الصحة والعافية.
كفاك كورونا
أخير ومع دعواتي لكم بعيد سعيد وحياة مجيدة، أطرح على نفسي وعليكم جميعا، أيهما أولى وأجمل ومن يستحق أن نكون له سند وعون لبلوغه في عيد الفطر السعيد لعامنا هذا، عيد اللقاء والتجمعات مع الأهل والجيران والأصحاب مع بقاء حالة الخوف والقلق والترقب ملازمة لنا لمظنة الإصابة بالفيروس معرضين أنفسنا للمساءلة القانونية بمخالفة قرارات اللجنة العليا؛ أم عيد العافية التي بتحققها يسلم المجتمع بما فيه ومن فيه، ويتحقق للجميع فرص الحياة السعيدة واللقاءات القريبة فور تدثرنابالصحة والعافية، لذلك علينا أن ندرك أن كورونا( كوفيد19) وضعنا في اختبار صعب، الرابح فيه من ينشد الفرح في ثوب العافية، والناجح فيه من حكم عقله وغلب الشرع والنقل على عاطفته وشوقه وضعفه، واتخذ من القانون والحكمة طريقه لبلوغ الغاية والوصول إلى الهدف؛ فعما قريب وبصبر جميل، ستزول الغمة وينزاح الكدر وتأتي العافية، وعندها سنستمر في فرحنا، وسنواصل مشوار بهجتنا وفرحتنا بالعيد، ونلبس ملابسنا الجميلة وخناجرنا الشامخة، ونمارس عادتنا وتقاليدنا كأجمل ما يكون، ونلتقي ونجتمع، ونصافح ونخاشم، فإن عيدنا غير ما دمنا بخير.
أخير