د. رجب بن علي العويسي
عمان وطن الحضارة والنهضة والإنسانية، لها ماضيها العريق الضارب بجذوره في أعماق التاريخ، وصلاتها التجارية والاقتصادية والبحرية مع حضاراته المتعاقبة، وقد اكسبها الموقع الجيوسياسي فرصة في تعزيز صلاتها التجارية حول العالم وبناء أسطولها التجاري الذي جاب بحار الدنيا حاملا معه رسالة الحضارة والإنسانية، وما التزمته في تاريخها السياسي من علاقات التعاون وحسن الجوار وتوثيق عرى الحوار والتواصل مع شعوب الأرض، وأسهم التاريخ الأصيل والثقافة المتوازنة والفكر المعتدل وخصوصية الإنسان العماني بما عرف عنه من فضائل التسامح والتعايش وشغف العطاء والبحث والعلم والعمل، الذي أصبح شاهد إثبات على ما وصلت إليه عمان من قوة وتفرّد، حتى جاء يوم الثالث والعشرين من يوليو لعام 1970 بقيادة المغفور له بإذن الله حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور طيب الله ثراه ليشكل علامة فارقة في بناء عمان الحديثة، وعلى مدى خمسة عقود من التشييد والبناء والعمل والإنجاز والعطاء والتضحية حققت عمان نهضة شاملة في مختلف الميادين، شهد لها القاصي قبل الداني، أعادت لعمان حضورها في المجتمع الدولي، وموقعها بين شعوب العالم، نهضة ملأت أرض عمان أمنا وسلاما وحبا ووئاما، عاش العمانيون في ظلالها حياة السلام والتنمية والتعايش والتكامل والتقدم والتطور.

لقد أنهت الخمسون عاما مدتها، لتبدأ عمان مرحلة انتقالية جديدة ونهضة متجددة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه-، وصية السلطان الراحل، الذي أكد في خطبه جميعها بأن عمان وهي تتجه بإرادة صلبة وعزيمة لا تلين نحو المستقبل المشرق لتقرأ في الإرث القابوسي الخالد ذاكرة عمان العصماء، تستلهم منه الأجيال مستقبلها وطريقها لبناء الدولة ونهضة الإنسان دافعا لها لروح التجديد والتطوير والبناء عليه، في استنهاض الهمم واستنطاق القيم وتوظيف تفاصيل المنجز الحضاري في رسم صورة المستقبل المشرق، فقد أبان الخطاب السامي لجلالة السلطان المعظم في عيد النهضة الخمسين هذه الصورة الأصيلة لمفهوم الإرث الحضاري وقيمته المعنوية والمادية في حياة الأمة العمانية، حيث جاء في الخطاب السامي: “وقد شَكّلَ إرثُنَا التاريخيُّ العريقُ، ودورُنَا الحضاريُّ والإنسانيُّ الأساسَ المتينَ لإرساءِ عملية التنميةِ التي شملتْ كافةَ ربوعِ السلطنةِ على اتساعِ رُقعَتِها الجغرافيةِ لتصلَ منجزاتُها لكلِّ أسرةٍ ولكلِّ مواطنٍ حيثُما كانَ على هذه الأرضِ الطيبة ورسّخَتْ قواعدَ دولةِ المؤسساتِ والقانون، التي سيكونُ العملُ على استكمالِها وتمكينِها، من ملامح ِالمرحلةِ القادمةِ بإذن ِالله.
وسنواصلُ استلهامَ جوهرِ المبادئِ والقيمِ ذاتـِها، في إرساءِ مرحلةٍ جديدةٍ “.

من هنا فإن استلهام جوهر المبادئ والقيم التاريخية والحضارية والإنسانية للإرث الحضاري للمدرسة القابوسية في مجالات التعليم والاقتصاد والتنمية والأمن والسلام والثقافة والفكر وبناء الدولة وصناعة الإنسان والإدارة والقيادة والسياسة الخارجية والدبلوماسية العمانية وغيرها، في ظل ما يتسم به من تنوع وتجدد ومرونة واتساع وعمق وسلاسة وما يحمله من قيم عالمية ومبادئ أصيلة ومواقف مشهودة ويستشرفه من أحداث مستقبليه جعلت منه فكرا متناغما مع التحولات الحاصلة في عالم متغير عايش النكبات والظروف والفرص، مستجيبا لتطلعات الأجيال المتعاقبة، ومددا حضاريا لبناء عمان المستقبل؛ وهو ما يلقي بالأمانة التاريخية والأخلاقية على مؤسسات التعليم في تبني إطار وطني مبتكر في تدريس روح هذا الإرث وجوهر هذه المبادئ والقيم لتصل إلى الأجيال القادمة في أفضل أدواتها وأنصع مساراتها وأدق محتواها وأعظم دلالاتها وأصدق معانيها وأنضج أهدافها وغاياتها، والآليات والإستراتيجيات والبرامج والخطط التي عليها أن تنتجها في سبيل توثيق محطات هذه النهضة ومراحل تطورها والتضحيات الجليلة لسلطان عمان الراحل، بحيث تتجه مناهج التاريخ والدراسات الاجتماعية إلى إعادة إنتاج مسارها وفلسفة عملها وتطوير المحتوى التعليمي الذي يعكس هذا الإرث ويتناغم مع تطلعات القيادة الحكيمة بشأنه ويستجيب لاحتياجات أجيال المستقبل، في ترابط وتكامل بين حلقاتها، وتناغم في آلية سرد المواقف وتعظيم القيمة المضافة المتحققة منها، وكيف استطاعت نهضة عمان تجسيدها في واقع حياة العمانيين، ومرتكزات بناء الدولة ودستورها المتمثل في النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم (101/ 96)، والوقوف على محطات الإنجاز العمانية الداخلية والخارجية، والخطط التنموية للدولة والتعريف بالمشروعات ومقومات البنية الأساسية، وبناء هياكل الدولة وتطوير السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، والأبعاد الإستراتيجية الذي يحملها الإرث الحضاري العماني لأجيال عمان المستقبل ومسؤولياتهم نحوه، والأدوات والآليات التي رسمت مسيرة النهضة العمانية، مع الاستفاضة في تناول شخصية جلالة السلطان الراحل في سماته الأخلاقية والخلقية وتعليمه وعبقريته وحكمته وقيادته وإدارته لشؤون الدولة والبروتوكول السلطاني وجولات جلالة السلطان والأوسمة العسكرية والمدنية والتشريفات العسكرية لجلالته في المناسبات والاعياد الوطنية، واهتماماته الشخصية وهواياته ومواهبة ومواقفه البطولية، والصورة الذهنية التي رسمها في الإنسان العماني حول العالم، ثم الذائقة الجمالية واهتمامه بالفنون الثقافية والآداب والتراث الموسيقي والعلاقات الدولية وكراسي السلطان قابوس العلمية حول العالم وغيرها كثير.

وتبقى مسؤولية المناهج الدراسية ضمان إيصال الصورة كاملة إلى الأجيال القادمة بأسلوب منهجي متدرج وطرائق تدريسية تستوعب طبيعة المواقف والأحداث وتنسج بين سطورها وعبر صفحاتها المتجددة شواهد حية على عبقرية جلالته وميكانيزما القيادة التي شكلت هوية عمان وتركت بصمة حضارية وحضورا متفردا لها في المشهد الوطني والإقليمي والدولي على حد سواء، وأن تتناغم محاور هذا التطوير في بنية المناهج الدراسية وهيكلتها ومعايير تأليفها مع لغة الخطاب التعليمي مراعية جانب المرونة والأصالة والرصانة والقوة العلمية والاحترافية والتأثير في المحتوى المقدم، بحيث تتفاعل مع المراحل العمرية للمتعلمين، وفق خطة دراسية تجسد هذا الإرث الحضاري في تواز جّم، وتأطير دقيق، ولغة راقية، ورصد لأبرز المحطات التاريخية للنهضة وتأطيرها وتجسيدها وإعادة صياغتها بما يتناسب مع طبيعة المرحلة الدراسية، موظفة مختلف الطرائق التدريسية والدلالات والعبر والدروس المستفادة منها، بالشكل الذي يضمن استيعاب الأجيال واحتوائهم لهذا الإرث، آخذة في الاعتبار التحديات والصعوبات والعوائق والظروف التي بدأت منها النهضة والأدوات التي اتخذتها في التغلب عليها ومواجهتها والتعاطي معها حتى أصبحت عمان دولة عصرية يشار إليها بالبنان، الأمر الذي يعزز في الأجيال مسؤولية الوفاء لهذا النهج والسير على خطاه، نهر متدفق من العطاء الخالد والإرث الماجد، يصنع في العمانيين القوة ويرسم لهم طريق المستقبل.
