د. رجب بن علي العويسي – خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
في مجلس الدولة
د. رجب بن علي العويسي
خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
في مجلس الدولة
لم تعد المسألة التعليمية اليوم مقتصرة على التعليم عن بعد، فمع القناعة بأهميته ودوره إلا أننا لا ننسى المخاطر الأخرى التي أغفلت وللأسف الشديد عنها مؤسسات التعليم المدرسي حول الضريبة المرتبطة بهذا النظام، والتي بدأت مع ضرورة حصول الطلبة على وسيلة التعليم عن بعد ( حاسوب محمول، أيباد، هاتف)، فحالة الإدمان الحاصلة لدى طلبة التعليم الأساسي من الصف الأول وحتى العاشر، لم تعد اليوم مجرد مساحة للتعليم عن بعد، ومرحلة جديدة ينتقل فيها التعليم إلى العالم الافتراضي، فهذا الأمر حسن ونشجع عليه ونؤمن بواقعيته لا محالة، ولكن عندما يفتقد التعليم لمسار توجيه الطلبة واثرائهم وتوفير الدعامات الأساسية والممكنات التي تحتويهم، بقبول التعليم عن بعد باعتبار ضرورة وحق تعليمي خوفا على سلامتهم من جائحة كوفيد 19، لا يجب أن يتعدى على حق آخر وهو سلامتهم الفكرية والأخلاقية ومحافظتهم على هويتهم.
والحقيقة التي يجب الإشارة إليها في هذه المعادلة؛ أن الفاقد التعليمي في التعليم عن بعد، والقصور الحاصل في الاستعداد لهذا النظام ، أوجد لدى الطلبة مبررا في اكتشاف ما تحويه هذه الأجهزة من تفاعلات وأفكار وصور وفيديوهات والدخول في منصاتها التواصلية المختلفة، حتى أصبح التعليم عن بعد مبررا لدخول الطلبة إليها، ومساحة لهم للتنفيس عن انفسهم في ظل حالة التقليدية التي يعيشها التعليم عن بعد، وتدني مستوى التعاطي معه من قبل الطلبة لافتقاره للكثير من الموجهات والممكنات والمهارات التي تتيح للطلبة فرص التعرف على هذا التعليم، ونظرا للمساحة الضيقة من الجاذبية والاحتواء والإثارة التي يحققها؛ إما لعدم الجاهزية المؤسسية له، أو لقلة البرامج الأخرى الداعمة لتعلم الطلبة في المنظرة والمنصة والتي يمكن أن يوجه الطلبة أوقاتهم بعد الانتهاء من الحصص المتزامنة بالاستفادة منها كاليوتيوب والفيديوهات، أو نظرا لتدني مستوى التشويق وشعور الطلبة بالملل خاصة في وقت الحصص وكثرة الواجبات والمشاريع والالتزامات التي أفقدت الطلبة متعة التعلم وقيمته ، في ظل وجود فاقد نفسي ومعنوي بين الطالب والمعلم؛ إما بسبب ضعف الشبكة وكثرة الانقطاعات أو مستوى تنظيم الوقت الدراسي، وغيرها من الأسباب ، إذ أوجد هذا الفاقد التعليمي للتعليم عن بعد، (فاقد الاحتواء ومتعة التعلم، وحس التواصل النفسي، وإدارة المشاعر في التعرف على الطالب، وتكافؤ الفرص بين الطلبة في الحصول على فرص متساوية في التعلم) أوجد مساحة فراغ ، وجهها الطلبة إلى شغف التعرف على المنصات التواصلية الأخرى واكتشاف برامجها مثل: اليوتيوب وبرامج التيك توك والانستجرام وجديد مشاهير السوشل ميديا في السناب شات وغيرها من البرامج التي توفر محتوى تفاعلي نشط أو متجدد، واصبح لدى الطلبة حسابات في هذه المنصات إما بعلم الوالدين او بدون علمهما نظرا لانشغال الطلبة في اكثر الأحيان بهذه الهواتف بحجة الاطلاع على الأنشطة والتكليفات وغيرها ولسهولة استخدام هذه البرامج أو تنزيلها بدون الحاجة إلى اشتراك أو اشتراطات محددة.
وبالتالي هل أغفل التعليم عن مسؤوليته في توجيه الطلبة نحو استخدام التقنية؟، وهل يوازي الجهد الذي قدمه التعليم للطلبة في التعليم عن بعد، ذات الجهد الذي قدمه في توجيه الطلبة نحو استخدام هذه التقنيات بما يحفظ خصوصية الطلبة وأفكارهم ويجنبهم المسارات الأخرى السلبية الناتجة عن حب الاكتشاف والفضول بما يدور في هذه المنصات؟، وهل وفر التعليم الممكنات التي تحفظ خصوصية الطلبة وأفكارهم ووقتهم من استغلال التقنية لها؟، وهل أعد الطلبة في المقابل إلى التعامل مع نواتج استخدام التقنية والتأثيرات المحتملة والممارسات المرتبطة بها؟ وهل استطاع تزويد المتعلمين بالموجهات الضبطية والأخلاقية التي تحفظ لهم خصوصياتهم وتجنبهم الوقوع في مزالق هذه التقنية وتبصرهم بالإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية التي عليهم استحضارها ومعرفتها قبل دخولهم في هذه المنصات خشية وقوعهم في مصيدة الحسابات الوهمية والتغرير بهم وابتزازهم ؟، وهل يوجد برنامج متكامل في المنظرة أو المنصة تتبناه مؤسسات التعليم المدرسي لحماية الطلبة من تأثير هذه المنصات وما يطرح فيها من أفكار، والأنشطة التي تساعد الطلبة في وقايتهم من الممارسات اللاأخلاقية التي قد تحصل فيها؟، وأين يقف دور التعليم في ترسيخ الرقابة الذاتية الداخلية وتأصيل السلوك الإيجابي الذي يضبط ويقنتن استخدامهم للتقنية؟ وهل وفر التعليم استراتيجيات وخطط تساعد المتعلمين على النقد والتحليل والتصحيح لما يدور في هذه المنصات؟
تساؤلات كثيرة، تؤكد الحاجة إلى مراجعات مقننة لنظام التعليم عن بعد والمحتوى التعليمي المقدم فيه، وإعادة هندسة عملياته الداخلية ومكوناته من جديد، وهي الحلقة المفقودة التي في تقديرنا الشخصي لم تتعامل معها مؤسسات التعليم المدرسي بجدية فائقة واهتمام بالغ الأهمية، وفق أطر واستراتيجيات واضحة ومعلومة من الطالب وولي الأمر والمعلم وغيرهم، بالشكل الذي يضمن تعزيز البناء الفكري والأخلاقي، وترسيخ المعايير والرقابة الذاتية والروح الإيمانية التي تصقل المتعلم كرادع شخصي له يوجه بوصلته ويحدد أهدافه في التعاطي مع هذه المنصات وحسن استخدامها، وهو الذي لم يظهر لولي الأمر بالشكل الذي يقرأه في ممارسات أبنائه، وحالة الإدمان التي يعيشها الطلبة اليوم خير شاهد على ذلك ، واصبح تركيز مؤسسات التعليم واهتمامها ينصب حول ضرورة توفير هذه الأجهزة وحصول كل طالب على جهاز يتيح له فتح المنظرة والدخول للمنصة لمشاهدة الحصة الدراسية مع المعلم أو المعلمة، والاطلاع على الدروس التعليمية والواجبات، مع اغفال الجوانب الأخرى والتأثيرات المرتبطة باستخدام التقنية من فئة عمرية لا تدرك ما تحمله هذه البرامج من مشوهات فكرية، في ظل قصور في البرامج التربوية والدينية المعززة لإدارة السلوك الطلابي في هذه المنصات، وترسيخ القيم وإنتاج القدوات.
عليه يلقي هذا الدور على مؤسسات التعليم اليوم، مسؤولية البحث عن اليات وبرامج متخصصة، وتبني استراتيجيات لوقاية الطلبة وتحصينهم من هذه المنصات، وفي الوقت نفسه تعزيز مهارات النقد والتحليل والانتقاء والاختيار وفق معايير يستشعر الطلبة أهميتها في حياتهم، والمحاذير التي يجب على المتعلم او مستخدم هذه المنصات من الوقوع فيها، أو عبر إيجاد مساحة اكبر في المنظرة والمنصة لبرامج تعليمية مشوقة ومعبرة وتحمل الاثارة والحركة التي تقدمها هذه المنصات، كما تتيح لهم فرص التعرف على الكثير من الجوانب التي يحتاجها الطلبة في مراحلهم الدراسية أو العمرية على حد سواء، إن من شأن تكاتف جهود مؤسسات التعليم المدرسي ودور المدارس الحكومية والخاصة في تبني مبادرات تعليمية جادة تتوازى مع التعليم عن بعد؛ أن يسهم في توفير محتوى تعليمي متجدد قادر على احتواء الطلبة، وسبر أعماقهم، وتقريب الصورة الجمالية للتعليم عن بعد لديهم، والاجابة عن التساؤلات التي يطرحونها في ظل غياب متعة التعليم ودور المعلم الموجه والناصح.