د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
تشكل الكفاءات في أي مجتمع، العقل الاستراتيجي الذي يبني خارطة الأمل، ويؤسس نهضة العمل، ويعزز روح الإخلاص، ويصنع الاعجاز، ويفخر بإنجازها المجتمع ، ونجاح هذه الكفاءات في مختلف المجالات الاجتماعية والصحية والاقتصادية والفكرية والبحثية والعلمية والابتكار وغيرها بحاجة إلى مزيد من الرعاية المستدامة بما تحمله من احتواء، وتحفيز، وتنشيط لحركة التفاعلات الداخلية الذاتية وترقية فرص نجاحها، والتثمير في الفكر والمهارة، وتعزيز القوة الفكرية والأدائية والمهارية لديها، والاهتمام بمبادراتها، وتوفير الفرص الداعمة لنجاحها، والمساحات الكافية والآمنة من الاهتمام والتقدير والتعزيز، ومن يأخذ بيدها لبناء أرضية النجاح، والوصول إلى منصات التفوق، وحضورها في ميادين التكريم واستحقاقات الإجادة والتميز، ويثق في قدراتها وإمكاناتها وتقديم الدعم المادي والمعنوي لها، والحد من تقييدها بأشكال البيروقراطية والعمل الروتيني والإداري أو عبر القرارات المزاجية التي باتت تؤثر سلبا في استقرار هذه الكفاءات الوطنية بمؤسسات التعليم ، وفتح المرافق التعليمية البحثية والمختبرات العلمية ومراكز الابتكار والاكتشاف والتجريب لها، حتى يكون لنتاجها أثر، ولجهدها بصمة، تاركة شواهد إثبات على الأرض ومنهج عمل يسع الجميع ويحتوي الإنجاز.
على أن واقعنا التعليمي بمختلف مستوياته الجامعي وما قبل الجامعي يواجه اليوم تحديات كبيرة في الإبقاء على الكفاءات والمحافظة على استدامة أثرها في المنظومة ، فحالات التقاعد الاختياري وطلبات الاستقالات أو انتقال الكفاءات من مؤسسات التعليم، أمر يثير للقلق وينذر بفاقد تشهده مؤسسات التعليم في قادم الوقت، قد تفقد فيها مؤسسات التعليم هويتها وخصوصيتها وتميزها وثقة المجتمع فيها وقدرتها على التعاطي مع معايير التقييم الدولية، وسيأتي اليوم – إن لم تعاد قراءة هذا الملف بطريقة أكثر مهنية وواقعية واستدامة- الذي سنعاني فيه من شح في الخبرة العملية والكفاءة النموذجية التي تمثل صورة المؤسسات التعليمية في العالم الخارجي، وهو نتاج لجملة من التراكمات التي باتت تعيشها مؤسسات التعليم بمختلف مستوياته ومراحله ، من حيث مدى وجود فلسفة تعليمية وطنية مرنة قادرة على خلق ثورة التجديد ومنح الكفاءات العمانية فرص أفضل للدخول فيها وسبر أعماقها، إذ ما زالت الممارسة في هذا المجال يغلب عليها الاجتهادية والشخصنة والمزاجية وأنتجت هذه الممارسات الاجتهادية واقعا جديدا غيّب عن الأنظار البحث العلمي والابتكار والمبادرة ، وظلت الممارسة التعليمية لا تعدو أن تكون ممارسة إدارية بحته بعيدة كل البعد عن الابتكارية والتجديد والاصالة العلمية، وإن حصل ذلك فهو حالة اجتهادية ورغبة ذاتية وتوجهات شخصية لمسؤول دون آخر ، بالإضافة إلى مدى وجود سياسات وطنية تعليمية مستدامة تضمن حقوق هذه الكفاءات والمحافظة عليها وتعظيم قيمتها العلمية والفكرية والبحثية، والعمل على احتوائها، وتوفير الضمانات والممكنات الداعمة لها في مختلف مراحل الإنجاز، بحيث تراعي مستوى تقدم هذه الخبرات، والأصالة العلمية ، وممارسة دورها الاختصاصي بكل حرية ومهنية، وظلت الكفاءات تصارع مع قرارات شخصية وتصطدم بقوانين وتوجهات طاردة للكفاءة، مغيبة للعقل الاستراتيجي الناضج في مؤسسات التعليم، غير قادرة على المحافظة على الحقوق الفكرية والعلمية، وحق الكفاءة في توفير مستلزمات الحياة المناسبة لها في ظل ما تبذله من جهد وما تعيشه من مواقف وأحداث خلف الكواليس .
من هنا وفي ظل أولويات رؤية عمان 2040 ومرتكزاتها ، باتت الحاجة اليوم إلى رفع كفاءة المؤسسات التعليمية من خلال إعادة النظر في هذه الممارسات، وبناء منظومة أكثر فاعلية للتمكين والصلاحيات والحوافز بما يحفظ استدامة الموارد البشرية، وتيسير حركة تنقل الكفاءة والخبرات والتجارب الوطنية وتدويرها بين مؤسسات التعليم وفق الشروط والضوابط التي تضمن استدامة عطائها وكفاءة إنجازها وامتلاكها روح التغيير والتجديد في أداء مهماتها، وأن تفتح المجال لتعزيز وتفعيل دور المراكز البحثية والعلمية والتشغيل الكفء لها، وتقليل الفاقد التعليمي والهدر والبيروقراطية الناتجة عن غلبة السلوك الإداري عليها، بحيث تصبح جائحة كورونا ( كوفيد 19 )، محطة استراحة لالتقاط الأنفاس تستلهم منها مؤسسات التعليم فرصًا أكبر لإثبات بصمة نجاح لها في المجتمع، وكسب ثقته فيها، في سبيل إنتاج حلول الواقع الاجتماعي وقضاياه المتعاظمة، وتوفير البدائل الداعمة للحكومة في مواجهة تداعيات الإجراءات الاقتصادية، ومعنى ذلك أن مؤسسات التعليم لم تعد مجرد أدوات منفذة للتعليمات، بل ركيزة مجتمعية تقف على نتاجها كل الجهود القادمة من مختلف القطاعات ، فهي مختبرات لتشخيص الواقع، وإجراء المسوحات، وتنفيذ الدراسات العلمية التي تستطيع خلالها مؤسسات الدولة وقطاعاتها الانطلاقة منها لآفاق رحبة وإنجازات متواصلة.
وبالتالي فإن واجب مؤسسات التعليم اليوم أن تقف على تراكمات هذه الصورة السلبية للتعليم في فقه الكفاءات، وكونها بيئات طاردة للكفاءة، وغير محفزة على الإنجاز، ولا علاقة لممارساتها اليومية بأولويات التعليم؛ فإن إعادة تصحيح هذه الصورة يتطلب جهدا وطنيا مشتركا يقوم على: إعادة هندسة فلسفة التعليم بشكل يوجه مؤسساتها نحو تعزيز البناء الفكري والإنتاج الرصين للكفاءات، وترسيخ المعايير الفنية وإنتاج المعرفة الحقة المتجددة بالشكل الذي تعظم في مخرجاته مهارات التحليل والنقد والتفكير الاستراتيجي والبحث العلمي والابتكار والاختراع والمبادرة، ويضمن استقطاب الكفاءة الوطنية وإعادة تدويرها والمرونة في تنقلها وتعريضها لفرص أكبر في التدريس والتدريب والبحث وتبادل الخبرات وإنتاج لغة عمل مشتركة تعيد النظر في الكثير من الممارسات الإدارية والتعقيدات التي باتت تشكل اليوم تحديا يصطدم بعمل الكفاءات، بالإضافة إلى وجود قواعد بيانات وطنية متكاملة بالكفاءة والخبرات النوعية في المجتمع وداخل مؤسسات التعليم.
إننا نؤكد أهمية إحداث نهضة جديدة للتعليم، تنقل مؤسساته من البيروقراطية والمحسوبية والروتينية الإدارية والظواهر الصوتية التي باتت تشكل صورة العمل التعليمي إلى إدماجه في واقع حياة المجتمع والوقوف الفعلي على تحدياته، وتوظيف الكفاءات العمانية في سبر أعماق هذا الواقع وإعادة إنتاجه، وأن توفر من التشريعات والقوانين وأنظمة العمل والحوافز والفرص والصلاحيات والممكنات ما يصنع لوجودها قوة، ولحضورها قيمة، ويبقى نجاح مؤسسات التعليم الأكاديمية منها والمهنية مرهونًا بمدى ما تفتحه من آفاق واسعة وبرامج متنوعة تتيح للكفاءات فرص رسم معالم التحول وصناعة الفارق وإنتاج حلول الواقع.