د. راشد بن حمود بن أحمد النظيري، كلية الحقوق، جامعة السلطان قابوس
تعد صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء من أهم الأدوات الاستثمارية التي تمارسها المصارف الإسلامية، تكسب منها عائدا ماديا مجزيا، ويحصل العميل بواسطتها على السلعة أو الخدمة المبتغاة، ولا تحول الصفقة دون انتقال ملكية السلعة أو الخدمة إليه فور تمام العقد، وفي الوقت ذاته يقف العميل على السعر الحقيقي للسلعة أو الخدمة، ومقدار ربح المصرف فيها، وفي هذا طمأنينة تلحق نفسه، فلا يخشى من الغَبْن الفاحش.
ونظرا لأهمية هذه الصيغة، فسوف أبين مفهومها، وبعض أحكامها، مع الضوابط التي يلزم الطرفين (المصرف والعميل) مراعاتها؛ حتى لا يتعارض عقدهما مع النصوص الشرعية، والقواعد الكلية، والمقاصد العامة للشريعة الإسلامية.
يُراد ببيع المرابحة للآمر بالشراء: شراء المصرف سلعة أو خدمة معينة، وبيعها للعميل بأقساط متفق عليها، بناء على طلب العميل، وحصول المواعدة بينهما على ذلك.
ومفاد هذا: أن العميل (الآمر) لا تتوافر لديه السيولة المادية الكافية لشراء السلعة أو الخدمة التي يرغب في تملكها، وصاحب السلعة أو الخدمة لا يرضى ببيعها إلا نقدا، فيلجأ العميل إلى المصرف (المأمور)؛ لتمويله من أجل الحصول على السلعة أو الخدمة، فيتواعدان على التمويل، ثم يقوم المصرف بشراء السلعة أو الخدمة، وإدخالها في ضمانه، ثم بيعها إلى العميل أقساطا إلى أجل مُسمَّى، مع ربح معين متفق عليه.
وهنا يُلحظ عدة أمور:
أولا: البيع بالتقسيط بثمن أكثر من سعر السلعة أو الخدمة يوم العقد.
وهذا أمر جائز، ويدل على على جوازه، قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ»، فالمداينة إلى أجل مسمى جائزة بنص الآية الكريمة، ولم تُقيد الآية الكريمة الجواز بأن تكون المداينة بسعر المعقود عليه وقت التعاقد دون زيادة، ويؤكد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في السلم(السلف): «من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم»، فلم يشترط عليه الصلاة والسلام أن يكون الثمن بسعر يوم العقد.
ثانيا: أن هناك مواعدة غير ملزمة لكل من المصرف والعميل، فالمصرف يعد العميل وعدا غير ملزم بشراء السلعة أو الخدمة ثم بيعها له، والعميل يعد المصرف وعدا غير ملزم بشراء السلعة أو الخدمة منه. ومفاد هذا أن هناك أمرين محظورين إذا حصلا فإنهما يُحوِّلان العقد من عقد شرعي مباح إلى عقد منهي عنه محظور، وهما:
الأمر الأول: أن يكون هناك عقد بيع بين الطرفين (المصرف والعميل) قبل تملك المصرف للسلعة أو الخدمة، يقوم المصرف إثر ذلك بشراء السلعة أو الخدمة، ثم تسلمها للعميل، ولا ريب أن هذا أمر لا يصح شرعا؛ لدخوله في بيع الإنسان ما لا يملك، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لحكيم بن حِزام: «لا تبع ما ليس عندك»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم تضمن، ولا بيع ما ليس عندك».
وأما الوعد الملزم فهناك صورتان:
الصورة الأولى: أن يكون الوعد ملزما للطرفين (المصرف والعميل)، وهذه الصورة حكمها حكم العقد على الصحيح بسبب الإلزام، ووجوب التنفيذ، فهي داخلة في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده؛ إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني.
وهذا ما ذكره الفقهاء السابقون: جاء في ملحق مدونة أبي غانم الخراساني، رحمه الله: «وسألته عن رجل يأتيه رجل يريد منه البيع، فيذهب الذي أوتي إليه، فيبتاع زيتا، ولم يبعه إلا من أجل الذي كلمه فيه، ثم يبيعه إياه بعد المواطأة إلى أجل؟ قال: أكرهه، وسألته عن رجل، أتاه رجل، فقال: إني أريد أن أبتاع زيتا، أفعندك شيء؟ قال: ليس عندي شيء أبيعكه، ثم إن الذي أوتي، قال: إني أرى الزيت نافعا، فابتاع الزيت، ولم يبتعه، إلا من أجل الرجل الذي كلمه، ثم إن الذي كلمه فيه جاءه يطلبه زيتا، فيبتاعه من غير مواطأة كانت بينهما، قال: ليس بهذا بأس».
وفي كتاب المصنف للشيخ الكندي: «إن قال: اشترِ غلام فلان حتى أشتريه منك، فاشتراه الرجل، ثم باعه له بنسيئة أو بنقد؟ قال: لا يجوز، قلت: فإن فعلا، أينتقض البيع؟ قال: نعم، ويرد الثمن على الذي اشتراه منه»(هذا إن قلنا: إن المواطأة، وما جاء في المصنف يُراد به الوعد، وأن الوعد ملزم).
وأجاز ذلك بعض المعاصرين؛ أخذا بظاهر المعاملة؛ فالبيع للعميل لا يكون إلا بعد شراء المصرف للسلعة أو الخدمة، ودخولها في ضمانه، ولذلك لا تدخل في النهي عن بيع الإنسان ما لا يملك، ثم إن في ذلك مراعاة لمصلحة الطرفين (المصرف والعميل)، ودفعا للضرر الذي قد يلحقهما أو يلحق أحدهما، وفيه استقرار للتعامل، وبُعدٌ عن الخلاف والنزاع.
الصورة الثانية: أن يكون الوعد ملزما لطرف واحد فقط (العميل أو المصرف)، وهذه الصورة أجازها مجمع الفقه الإسلامي، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، كما أجازتها هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية بالبحرين في المعايير الشرعية.
وإذا كان المصرف يعتمد على القول بجواز إلزام العميل بالوعد الذي قطعه على نفسه، فإنه لا مانع أن يطلب هامش الجدية من العميل، فإذا نكث العميل في وعده أخذ المصرف تعويضا بمقدار الضرر الفعلي الذي لحقه بسبب ذلك، ورد الباقي إلى العميل، وأما العربون فلا يؤخذ في زمن المواعدة، ويجوز للمصرف أخذه -على القول بجوازه- بعد البيع للعميل.
الأمر الثاني: إن مما يُحوِّل الصفقة إلى صفقة محظورة شرعا أن يبيع المصرف السلعة بعد شرائها، وقبل قبضها (حقيقة أو حكما)، ودخولها في ضمانه؛ وذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن.
ولهذا فإن على المصرف أن يقبض السلعة، ويدخلها في ضمانه بعد تملكها، فإذا تلفت قبل أن يتسلمها العميل كانت من ضمانه (المصرف)، كما أن عليه أن يتحمل التأمين -إن كان هناك تأمين- وجميع الرسوم والمصاريف المترتبة على عملية الشراء(الأول).
والخُلاصة: أن عقد بيع المرابحة للعميل لا يكون إلا بعد تملك المصرف للسلعة أو الخدمة، ثم قبضها، وإدخالها في ضمانه، ويكون ذلك بعقد منفصل تماما عن المواعدة.
ثالثا: أن يكون المقصد الحقيقي من العقد هو التمويل للحصول على السلعة أو الخدمة، ولا يجوز أن يكون العقد حيلة للوصول إلى الربا وبيوع العينة، كأن يكون البائع الأول للمصرف هو العميل نفسه المالك للسلعة، أو يتفق مع أحد أقاربه أو أصدقائه لنقل ملكية السلعة إليه نقلا صوريا، ثم يطلب من المصرف عقد بيع المرابحة للآمر بالشراء؛ وما ذلك إلا لأجل الحصول على السيولة النقدية، فإذا تسلم الصديق أو القريب المبلغ من المصرف سلمه إياه مباشرة.
رابعا: لا يجوز التمويل ببيع المرابحة للآمر بالشراء في الأصناف الربوية، فلا يصح بيع النقدين(الذهب والفضة) أو العملات مرابحة بثمن نقدي مؤجل، مهما اختلف الجنسان الربويان؛ وذلك لاشتراط التقابض؛ منعا من ربا النسيئة، روى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد».
خامسا: لا يجوز للمصرف أن يشرُط على العميل شرطا جزائيا في عقد بيع المرابحة؛ لأنه من باب إما أن تَقضي، وإما أن تُربي، وهو محرم شرعا، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما».
سادسا: لا يجوز للمصرف في حال إعادة جدولة المديونية أن يزيد في الثمن المتفق عليه وقت التعاقد؛ لأنه الربا الجاهلي المنهي عنه تحريما، إما أن تقضي، وإما أن تربي.