د. رجـــب بن علـــي العــــويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
في مجلس الدولة
مع بدء العام الدراسي الجديد بدوام الهيئات التدريسية والإدارية والاشرافية والوظائف المساندة، تبدأ مرحلة جديدة في مسيرة التعليم، لها آمالها الكبيرة وطموحاتها العالية، محفوفة بالعديد من الهواجس والمخاوف، ما يدعو إلى تمتلك مؤسسات التعليم الممكنات التي تضمن قدرتها على تكييف الطلبة للمعطيات التعليمية، والظروف التي تعمل فيها مؤسسات التعليم، ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن بعد غياب للطلبة عن مقاعد الدراسة دام عام ونصف العام هو، إلى أي مدى تمتلك المدارس جاهزية تامة في احتواء الطلبة نفسيا؟ بما يعني أهمية أن تضمن البداية الأولى للطلبة في مقاعد الدراسة، وضوح الخطط والبرامج، والمبادرات، وآليات العمل التي تعتمدها سواء في عملية استقبال الطلبة، أو في توزيعهم على الصفوف الدراسية أو في تصحيح خيارات الطلبة، والتعاطي مع الإجراءات والبروتوكول الصحي بالشكل الذي يعمل على امتصاص الصدمات النفسية التي ما زالت تعايش الطلبة وأولياء أمورهم، وعندها يصبح الاحتواء النفسي للطلبة أولوية تعليمية تسبق عمليات التدريس الأخرى، بل أن قدرة المتعلمين على استيعاب الحالة التعليمية واستراتيجيات التدريس وطرائقه، يرتبط بالمكون النفسي ومستوى حضوره في بيئات التعليم والتعلم، وإدراك القائمين على تعلم الطلبة للخطط والاستراتيجيات والأطر التي تضمن كفاءة اعتماد المكون النفسي كمدخل استراتيجي لبدء عام دراسي أكثر أمانا والتزاما وتحقيقا لمتطلبات العودة الآمنة.
وبالتالي إلى أي مدى يمكن ان يشكل بدء دوام الهيئات التدريسية والإدارية والإشرافية في التعليم المدرسي بفترة تسبق دوام الطلبة محطة لالتقاط الأنفاس في تهيئة بيئة التعليم للطلبة، وانتاج بيئات تعليمية تشعر الطالب بالأمان النفسي وحمايته من أي تشوهات فكرية قد تؤثر سلبا على قناعاته حول التعليم والإجراءات المتخذة أو في تعاطيه مع الصدمات والمخاطر التي قد يواجهها اثناء وجوده في بيئة التعليم، ومدى امتلاك المدارس للممكنات والأدوات والسيناريوهات والبدائل والفرص التي تعمل على التعبئة النفسية للطالب ، وتقدم له برامج ارشادية وتوجيهية وتثقيفية وتعليمية تضمن تقليل كل مسببات الخطر النفسي، عبر أدوات تحمل في ذاتها الأمل والايجابية والتفاؤل والحماس والرغبة والجدية، ويجد ولي الامر والطلبة في هذه البيئة التعليمية مساحة امان تزيل عنه هاجس القلق والخوف الذي يرتبط بوجود الفيروس والتعايش معه، وكيف يمكن ان تكون العودة الامنة للمدارس فرصة لتغيير القناعات والافكار الأحادية والهواجس السلبية في قدرة الطلبة على التكيف مع الواقع الجديد وجاهزية المدارس في ظل الصلاحيات والممكنات الممنوحة لها على بناء نمط تعليمي متكامل يحفظ الطلبة من أي حوادث وظروف صحية قادمة، وفي الوقت نفسه يقوي مناعتهم الذاتية في استيعابهم للواقع، وتكيفهم مع ظروفه وتعاملهم مع مستجداته، وتعاطيهم مع قراراته بكل ثقة وتفاؤلية، ويصبح نضج هذه الممكنات وطريقة استخدامها، وتشارك الجميع في صياغتها ورسم معالمها في حياة الطلبة، علامه فارقة لتحصينهم من أي منغصات نفسية أو أفكار سلبية أو تعريضهم للخطر ووقوعهم في الضرر.
ويبقى قدرة المدارس على تحقيق الجاهزية النفسية مرتبط بما يتم إدخاله على الممارسة التعليمية من تطوير وتحسين مستمر في أدوات تشخيص السلوك النفسي وتوفير مقاييس للرصد والتحليل وقراءة الشخصية وتقليل أثر الاضطرابات النفسية وارتفاع معدلات القلق الناتجة عن الخطاب التعليمي أو الأساليب المستخدمة أو الممكنات المهارية والقيادية والنفسية والتعليمية التي يمتلكها الممارسون التعليميون في التدريس والتثقيف والتدريب وقيادة التعليم في غرفة الصف والقاعات الدراسية، بحيث يصبح للمكون النفسي موقعه وحضوره في حزمة الاجراءات والمسارات المنهجية وطرائق التدريس وفلسفة تعلم الطلبة والخطة التشغيلية المعتمدة من اللجنة العليا، هذا من جهة ومن جهة أخرى أن لا يفهم من موضوع احتواء الطلبة نفسيا هو وقوعهم في اضطرابات نفسية والحاجة لتوفر الاختصاصيين النفسيين والمعالجين في هذا الأمر ، وإنما إلي أي مدى يشعر الطالب وهو يدخل بيئة المدرسة، أن البيئة المادية والبشرية والكادر الوظيفي بمختلف مسمياته الوظيفية يمتلك لغة خطابية جديدة تستوعب احتياجات الطالب النفسية المتغيرة، وتحرص على أن ينال نصيبه من الاهتمام والرعاية والمتابعة، وأن الجاهزية الداخلية سواء ما يتعلق منها بالحافلات وتوزيع الطلبة في صفوفهم أو القاعات التدريسية ووجود المعلم المتخصص والكفء بما يعزز من بناء لغة تواصلية تضمن رفع درجة الإحساس بالمخاطر، والحدس بالتوقعات لدى الطالب، الأمر الذي من شأنه أن يقوي من روح الإرادة والتحمل والتقبل للواقع بما ينعكس إيجابا على بدء العام الدراسي الجديد وإزالة كافة الأوهام والتكهنات التي يتلقاها من أقرانه وأصدقائه وأسرته بدون إدراك لعواقبها وضررها، وبما يسهم في خفض درجة القلق لدى الطالب.
وبالتالي مسؤولية المدارس في تبني أطر واضحة في تحقيق الجاهزية النفسية من جهة، ومبادرات عملية جادة في تقنين السلوك التعليمي وتوظيفه لصالح الأداء التعليمي الجيد، وأن تعمل على تكثيف التوعية المنتجة بقواعد العمل والممارسة الصحية السليمة بين الطلبة، وربط التشريعات والأنظمة واللوائح المعززة للبروتوكول الصحي بجودة الحياة المدرسية، بحيث يسير جنبا إلى جنب مع بناء شعور إيجابي لدى المتعلم حول تعلمه، وظروف تعلمه، وتقبله للتوجيهات، وتهيئته للسيناريوهات القادمة، وقابلية الخطة الدراسية للتغيير، وامتلاكه حصانة ذاتية تضمن تعاطيه الواعي مع أي تغيرات في خطة العمل، أو أي انفعالات او تراكمات نفسية قد تحصل في هذا الشأن، وعبر تقديم نموذج تعليمي يصنع من المكون النفسي محطة لبدء عام دراسي جديد خال من المخاطر والحوادث، فمع التقدير لجهود المدارس في استقبال الطلبة وتنظيم الحافلات، وتهيئة الصفوف الدراسية والمرافق التعليمية الأخرى للطلبة، يبقى جودة تحقق ذلك في الواقع، مرهون بالاستدامة في الكفاءة الأدائية، ووضوح أدوات العمل وأدوار المعلمين وإدارة المدرسة، وولي الأمر، والمتابعين من المديريات التعليمية وديوان عام وزارة التربية والتعليم، وفق برنامج يومي متكامل يقدم جرعات توعوية وتثقيفية نشطة، فهل يصبح سبق دوام الهيئات التدريسية والإدارية بالمدارس محطة تختبر جاهزيتها في تقديم نموذج تعليمي راق يحتوي الطلبة ويحافظ على سقف توقعاتهم ويبدد هواجسهم السلبية المرتبطة بجائحة كورونا؟