أخبار

في قراءة لـ “أثير”: البوح والشعر في “أربع وعشرون ذاكرةً لقصيدة واحدة”

في قراءة لـ “أثير”: البوح والشعر في “أربع وعشرون ذاكرةً لقصيدة واحدة”
في قراءة لـ “أثير”: البوح والشعر في “أربع وعشرون ذاكرةً لقصيدة واحدة” في قراءة لـ “أثير”: البوح والشعر في “أربع وعشرون ذاكرةً لقصيدة واحدة”

أثير- مكتب أثير بتونس

قراءة: محمد الهادي الجزيري

منذ البداية ومن الأسطر الأولى نشعر أنّنا في حضرة شاعر لا يلعب بالكلمات، لا يرصّفها كيفما اتّفق، وهذا ما أحبّه كمتلق أتذوّق الشعر، مللنا يا الله من الكلمات المتقاطعة التي نقرأها في كلّ مكان، على أنّها شعر صاف، ثمّة قرف من كلّ شيء،  في القصيدة الأولى لعبد الله بيلا، فالإفطار وحيدا فقط، دليل على غياب الأصدقاء أو انعدام سكن نلوذ به ، كما قال جدّنا الأكبر:

” بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ

وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ “

وكلّ شيء معاد ومكرّر ..فكأننا نجترّ ساعاتنا ونسمّيها حياة :

” أفطر وحدي

” أفطر وحدي

وأشرب كوبا من الشاي

وأشرب كوبا من الشاي

أقرأ في هاتفي

أقرأ في هاتفي

كلّ تلك التحايا التّي كررتْ نفسها

كلّ تلك التحايا التّي كررتْ نفسها

وأكرّر إرسالها  “

وأكرّر إرسالها  “

وأظنّ الشاعر وضّح للقارئ منذ بداية المجموعة من هو وما ينتظره في هذا المتن الحيّ النابض الصارخ في وجه الركود والقنوط والملل ، كأنّه يستحضر الراحل سميح القاسم حين ارتفع بالقول :

” يا أيها الموتى بلا موت ..، تعبت من الحياة بلا حياة “

” يا أيها الموتى بلا موت ..، تعبت من الحياة بلا حياة “

في قراءة لـ “أثير”: البوح والشعر في “أربع وعشرون ذاكرةً لقصيدة واحدة”
في قراءة لـ “أثير”: البوح والشعر في “أربع وعشرون ذاكرةً لقصيدة واحدة” في قراءة لـ “أثير”: البوح والشعر في “أربع وعشرون ذاكرةً لقصيدة واحدة”

فهمت الآن ما يريد قوله وتخليده هذا الفتى، فأربعٌ وعشرون ذاكرة لقصيدة واحدة ، شعرنة العالم اليوميّ، للشاعر المهموم، للمعلّم المأزوم، ولصفات أخرى لم أصل بعد إليها لعلّها العاشق والمفكّر والمتعب من كلّ شيء والحالم بالجديد والمبتكر، لعلّها ..سأواصل القراءة على مهل ، ونحن وصلنا إلى ” ذاكرة التاسعة صباحا ” وتسمية الأشياء بمسمّياتها دون مساحيق ولا ماكياج :

” أسمّيه سجنا

” أسمّيه سجنا

يسمّونه في زوايا المدارس فصلا

يسمّونه في زوايا المدارس فصلا

المسمّى هنا

المسمّى هنا

لا الأسامي

لا الأسامي

سأمنحه الآن تسمية لائقةْ

سأمنحه الآن تسمية لائقةْ

وليكن وطنا تائها

وليكن وطنا تائها

نهَرا مالحا

نهَرا مالحا

غابة شاردةْ

غابة شاردةْ

وليكن قفصا للعقولِ

وليكن قفصا للعقولِ

ـ كما يتبّدى ليَ الآن ـ

ـ كما يتبّدى ليَ الآن ـ

ثلاجة للجثثْ “

ثلاجة للجثثْ “

ويظلّ الشاعر يمضي بنا من ساعة إلى أخرى ، من العاشرة صباحا حيث يرى التلاميذ بعينيْ فيلسوف متأمل ” ترقب من شرفة في خيالك، طلابك النابتين كحقل من القمح، لا شيء مختلف ..أو نشاز” إلى ساعة أخرى وهو يضفي الشعرية العالية على كلّ شيء يمتّ بصلة لحياته اليومية ، فيصل بنا إلى الساعة الثانية عشرة مساء، فيكتشف أنّ ساعته قد تنبّهت للوقت، هل يقصد وقت الأفول الأخير أم توقيت الدوام في الفصل ،أم ماذا يا ترى :

” بعد دقيقة سترنّ أجراس النهاية

” بعد دقيقة سترنّ أجراس النهاية

كي أجرّ خطاي مرتحلا لفصل آخر

كي أجرّ خطاي مرتحلا لفصل آخر

وأظلّ أسأل

وأظلّ أسأل

في الطريق إليه …

في الطريق إليه …

ما جدوى انشطار الوقت بين يديّ؟ّ

ما جدوى انشطار الوقت بين يديّ؟ّ

أسأل ساعتي

أسأل ساعتي

فتدير دهشتها العقاربُ

فتدير دهشتها العقاربُ

ثمّ تمضي “

ثمّ تمضي “

في قراءة لـ “أثير”: البوح والشعر في “أربع وعشرون ذاكرةً لقصيدة واحدة”
في قراءة لـ “أثير”: البوح والشعر في “أربع وعشرون ذاكرةً لقصيدة واحدة” في قراءة لـ “أثير”: البوح والشعر في “أربع وعشرون ذاكرةً لقصيدة واحدة”

أنطّ بكم أيها القراء ، أقفز في الساعة الرابعة مساء، فور قيام الشاعر من نوم خفيف ، فيدخل في مخاطبة ذاته المنحدرة من ذرى الدهشة والحلم المتداخل بالفانتازيا ، فيعلمها أنّها مقدّر عليها أن تحطّم كلّ أحلامها على صخرة الواقع ، فكلّ حرّ ذاك مآله وكلّ حرية لا مشروطة ولا ممنوعة بأدوات المنع يكون مصيرها السقوط المدوّي، فالشاعر لا يبكي ولا يأسف على ذلك بل يصف لنا حالنا وواقعنا الأليم :

” يا هذا الصاحي في الرابعةِ تماما

” يا هذا الصاحي في الرابعةِ تماما

صفّد أبواب الفكرةِ

صفّد أبواب الفكرةِ

واسجن رأسك في القفص المتدلّي عند البابْ

واسجن رأسك في القفص المتدلّي عند البابْ

أتقن

أتقن

( يا هذا المتغابي كبقيّة هذا العالم )

( يا هذا المتغابي كبقيّة هذا العالم )

دوركَ

دوركَ

واخرج معطوبا مثقوبا

واخرج معطوبا مثقوبا

لستَ ترى

لستَ ترى

لا تسمع

لا تسمع

لا تتكلّم

لا تتكلّم

لا تفهم شيئا

لا تفهم شيئا

لا قيمة للعقل بهذا العالم..”

لا قيمة للعقل بهذا العالم..”

أتوقّف لحظات عند السادسة مساء ، لألومه قليلا على خطأ عروضيّ ، من الواضح أنّه متعمّد وبسابق إصرار وترّصد ، كان يمكن أن يصبر أكثر ريثما تعطيه اللغة والوزن حلولا كثيرة لكنّه رفض ذلك ، وله ذلك لكن من الصعب أن يسقط في امتحان بسيط كهذا ويلجأ إلى الخطأ ، الخطأ هو قوله :

” تغيبُ أخيرا ظلالكَ..

” تغيبُ أخيرا ظلالكَ..

تدخلُ في عتْمة الأمسيات الكئيبة..”

تدخلُ في عتْمة الأمسيات الكئيبة..”

ولكنّ الفكرة جاءت على حساب الوزن ، ولا بأس في عصر النثر وما أدراك ما النثر الشعريّ المتفجّر من كلّ النصوص المعروضة في الأوراق وأدوات التواصل الاجتماعي وما يلفظه ملايين ” الشعراء ” الجدد والمستعجلين .

نعود الآن إلى الشعر الصافي ونقرأ في الساعة الواحدة صباحا ، الشاعر يهدّد جسده لكي يرتاح ويريحُ ، كم أتعبنا الطين ولا نسلمه للراحة الكبرى إلا حطاما ، ثمّ يحرضه على الصحو أو النوم، فسيان اليقظة والسبات ، فالكلّ  واحد .. متعدّد ومتحدّ :

” يمتدّ بساط النوم أمامك

” يمتدّ بساط النوم أمامك

والروح النشوانة تشخر

والروح النشوانة تشخر

تعبر منك إلى برزخها الطافي

تعبر منك إلى برزخها الطافي

وتحاول أن تنساك وتشرب نخب الخيبة

وتحاول أن تنساك وتشرب نخب الخيبة

والزمن الوحشيُّ المنفلت

والزمن الوحشيُّ المنفلت

الهائج في غابات الروح

الهائج في غابات الروح

سلاما وحشيا سيفيض على أوهامكَ

سلاما وحشيا سيفيض على أوهامكَ

مت أو نم

مت أو نم

لا فرق

لا فرق

ستصحو حين تنامْ

ستصحو حين تنامْ

( الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا )..”

( الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا )..”

 

ختاما فالشعر متفشّي في هذه المجموعة ” أربعٌ وعشرون ذاكرةً لقصيدة واحدة ” وقد خلّفت الكثير من الساعات بغية اقتناء فقرات شعرية عالية ، وأرجو أن أكون وفقتُ في اختياري ولم أقترف ذنبا في حقّ شاعرنا الذي حاول باجتهاد شعرنة يومه كاملا وأفلح في ذلك ولم أقرأ مثل هذه الفكرة من قبل ، وأعتقد أنّه ليس قادما على عجل فقد وصل إلى نبع الشعر العذب الصافي .

 

Your Page Title