مسقط-أثير
إعداد: محمد بن علي الوهيبي- كاتب عماني
من المعروف أن الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل بحكم قربه من الرئيس جمال عبد الناصر وبحكم موقع مصر ودورها بعد ثورة 1952م قابل العشرات من أقطاب التاريخ المعاصر، ولا شك بأن هيكل كان صحفيًا معروفًا قبل ثورة الضباط الأحرار في مصر واشتهر بتغطيته للحرب العالمية الثانية، والتحقيقات الصحفية التي أجراها في عهد الملك فاروق، لكن الدور الأبرز للإعلامي المخضرم هيكل في عالم الصحافة كان في زمن عبد الناصر.
يوضح هيكل في كتابه “زيارة جديدة للتاريخ” والذي اطلعتُ عليه في طبعته السادسة والصادرة في 1987م بأنه سعيد الحظ بمن لقي حين أتاحت له الظروف أن يرى قمما من رجالات العالم الذين عاصرهم وكانت لهم أدوار مهمة أسهمت في صناعة تاريخ البشرية والدنيا كما نعرفها الآن، كان بينهم ملوك وزعماء وساسة وقادة حرب وأساطين علم وفكر خلال أربع حِقب زمنية بين الخمسينات والثمانينات.
في هذا الكتاب اختار هيكل أن يستعيد مقابلاته وحواراته مع سبعة فقط من هؤلاء الذين شدته إليهم أدوارهم التاريخية المرتبطة بالقضايا التي كانت تشغله في فترة إعداد أوراق الكتاب الذي ضم بين دفتيه حوارته معهم وهم : “خوان كارلوس ، اندروبوف، الفيلد مارشال مونتجمري، آلبرت آينشتاين،جواهر لال نهرو، محمد رضا بهلوي، ديفيد روكفلر”
وما شدني شخصيًا أكثر إلى هذا الكتاب هي الصفحات التي دوّن فيها هيكل لقاءه بأعجوبة عصره ” البرت آينشتاين” الحائز على جائزة نوبل للفيزياء في عام 1921م وذلك لتفسيره ظاهرة “التّأثير الكهروضوئي”
عنون هيكل صفحات لقائه بآينشتاين:
” النسبية، القنبلة، وإسرائيل”
يُنظر إلى النسبية بكونها أشهر نظريات الفيزياء الحديثة فهي التي أحدثت نقلة نوعية في الفيزياء النظرية وعلم الفلك حولت على إثرها مفهوم الزمن من كونه مطلقا إلى نسبي وجعله بُعدًا رابعًا يندمج مع الأبعاد الثلاثة المكانية، وجعلت الزمان والمكان شيئًا موحدًا، وكان قبل هذا يتم التعامل معهما كشيئين مختلفين، وانبثقت من هذه النظرية علوم جديدة غيرت العالم ونقلته إلى زمن آخر.
وعن هذا اللقاء يقول هيكل : ” وجدت في أوراقي ثماني عشرة صفحة سجلتها بخط يدي بعد لقائي معه كتبتها في القطار العائد بي من “برنستون” ثم استغربت أن ما نشرته من هذا الحديث في حينه لم يزد عن ثلاثة أرباع صفحة من مجلة “آخر ساعة” التي كنت أرأس تحريرها في ذلك الوقت”
تم اللقاء بين هيكل وآينشتاين في ديسمبر 1952م، كان هيكل في أواخر العشرينات من عمره، وكان آينشتاين في السبعينات وكانت تلك أواخر سنين عمره، وحينها كان آينشتاين أعظم “نجوم العلم في القرن العشرين” بما أحرزه من نجاحات علمية.
ذكر هيكل بأن وزارة الخارجية الأمريكية بذلت كل ما في وسعها لترتيب اللقاء الذي يجمعه بآينشتاين في نيويورك وأتاه الرد بأن الرجل وافق على اللقاء لكن بشرطين وهما أن يتم اللقاء خلال فترة ممارسته لرياضته اليومية!!، وهي المشي في الغابة المحيطة بجامعة “برنستون” والشرط الثاني ألا تزيد مدة اللقاء عن نصف ساعة!!، وهذا هو فقط الوقت الذي تسمح به ظروف آينشتاين، إنه الوقت الذي لا يعني للكثرة الكاثرة منا شيئًا والذي عرف قيمته هذا العبقري الكبير ومكّنه كي يكون أعظم الأحياء في القرن العشرين ومنح العالم كشفًا عظيمًا (نظرية النسبية) بينما نتفنن نحن في إهدار الوقت، وكأننا في غفلة عن عَدّاد الزمن ونسعى في تضييعه وكأننا نقطعه إربًا إربًا فيما لا يفيد، ونريد للوقت أن يمضي ويتلاشى وينتهي وكأنه عبء ثقيًل يجب الخلاص منه.
وفي هذا صدق وأجاد أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
” دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ
إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني
فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها
فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني”
بطبيعة الحال لم يُخفِ هيكل امتعاضه من الشرطين لكنه بحس الصحفي عدّها فرصة مهمة لا يجب أن تضيع منه، وقال لآينشتاين حينما التقيا بأن شروط اللقاء شبيهة “بمعاهدة فرساي” وكان رد فريد زمانه : أنا لم أفرض أي شرط الواقع أنهم اتصلوا بي على عجل لترتيب هذه المقابلة ولم أجد في جدولي إلا هذا الوقت. ودار حديثهما حول النسبية وإسرائيل والقنبلة الذرية.
أبدى آينشتاين حبه لليهود وبأن اليهود الذين يعيشون في “إسرائيل” هم أهله، وقال الكثير في هذا السياق وفق نظرته وإيمانه وفهمه، عبر عن إعجابه “بوايزمان” و “بنجوريون” لكنه قال عن” مناحم بيجين” بأنه كان يستفزه لأنه يذكره بالنازيين، وذكر آينشتاين لهيكل بأنه رفض مقابلة “مناحم بيجين” عندما طلب الأخير أن يقابله.
وذكر آينشتاين في هذا اللقاء النادر بأنه عُرضت عليه رئاسة “دولة إسرائيل” لكنه اعتذر لأنه لم يكن مخلوقًا للرئاسة كما قال، وعرف بأنهم كانوا يريدون اسمه فقط.
ووفق ما كتبه هيكل قال آينشتاين في نبذه للعنف وللوطنية الضيقة “إن مشكلتنا الآن هي نفس المشكلة القديمة أن قوة الإنسان سبقت يقظة ضميره ، وأن نمو عضلاته جاء قبل نمو تفكيره كما أنه ليس هناك قضية تتعلق بالإنسان يطاوعني قلبي على تركها في يد جنرال”
وبيّن هيكل لآينشتاين في هذا اللقاء بأن إسرائيل لا تريد السلام وأنها تمارس أقصى درجات العنف لتوجد اسطورة من الخوف لمن حولها لكن ولأن البروفسور آينشتاين مخلصا لبني جلدته ودولته المزعومة تلك رفض أن يستمر هيكل في هذا الجانب من الحديث.
وعن صلته بالقنبلة قال آينشتاين بأنه لم يكن له دخل لكن بعض ما توصل إليه حول النسبية أثبت أن تكسير الذرة ممكن، وأضاف بأنه لم يكن قريبًا من عملية إنتاج القنبلة الذرية.
ولأن هيكل أدار اللقاء بأسلوبه الخاص وبطريقة جعلت آينشتاين يرى بأن هذا اللقاء فيه إثراء وإفادة الأمر الذي جعله يمد وقت رياضة المشي والحديث الممتع من نصف ساعة إلى ساعة وخمس دقائق ليدعو آينشتاين ضيفه هيكل بعدها إلى بيته الذي ظهر بين غابات الأشجار وظلالها ليعد له فنجانًا من الشاي بنفسه.
ولأن “هُناك لحظات من الحياة تستحق أن نهبها عُمْراً كَيْ تَعود” كان آينشتاين الوحيد من بين الذين قابلهم هيكل تمنى أثناء استعادة حواره معه وكتابته لتلك الذكريات لو كان باستطاعته أن يسترجع الأيام والأقدار وأن يقابله مرة أخرى.