فضاءات

الليلة الغامضة التي أوقعتْ “جلال برجس” في غرام الرواية

الليلة الغامضة التي أوقعتْ “جلال برجس” في غرام الرواية
الليلة الغامضة التي أوقعتْ “جلال برجس” في غرام الرواية الليلة الغامضة التي أوقعتْ “جلال برجس” في غرام الرواية

أثير – عبدالرزّاق الربيعي

خصّ الروائي الأردني جلال برجس الحائز على جائزة البوكر العربية 2021 عن روايته “دفاتر الورّاق”، وجوائز أخرى بحديث لـ(أثير) عن الحادثة الغامضة التي جعلت منه روائيا ذات ليلة شتوية عاصفة أصغى خلالها إلى نداء غامض جعله يخرج في قبيل ليلة ممطرة من بيته في مدينة مادبا الأردنية، متوجّها إلى جبل (نيبو) الواقع غربي المدينة، والمطلّ على الأراضي الفلسطينية، الذي يحتلّ مكانة روحية في الديانات السماوية.

ونحن نتجوّل في جبل (نيبو) كان برجس يحكي عن تلك الحادثة بهدوء الروائي الذي يكشف أوراقه، متكئا على ما قاله في (نشيج الدودوك) سيرته الروائية التي ستصدر قريبا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، إذ قال إن كتابة الرواية لم تكن ضمن مشاريعه الإبداعية رغم أنه أنجز عدة مخطوطات منها في مرحلة عمله الصحراوي، وذلك لأنها على حد قوله جنس أدبي خطير.

في ذلك اليوم الذي كانت السماء فيه كما وصفها “كوجه امرأة على أهبة البكاء” شعر برغبة استثنائية تدفعه للكتابة السردية. حاول الكتابة في منزله لكنه لم يستطع؛ فغادر إلى جبل نيبو مكانه المفضّل، لكن داهمته العاصفة وما استطاع العودة، خاصة حينما غارت عجلات سيارته في الطين، وغمرتها المياه.

لم يكن برجس يعلم أن تلك اللحظة ستحدث نقلة في حياته الإبداعية، فهو في تلك المرحلة شاعر أصدر ديوانه الأول “كأي غصن على شجر” ثم ديوانه الثاني “قمر بلا منازل” وأعقبه بمجموعته القصصية و “الزلزال”. وكتابين في أدب المكان “رذاذ على زجاج الذاكرة” و “شبابيك مادبا تحرس القدس”.

حينما حلّ الظلام حمل حقيبته التي ترافقه في رحلاته إلى الأمكنة ولجأ إلى كهف في ذلك الجبل، وهو يقع بين غضب الطبيعة الذي يهدد حياته وبين تلك الفرصة السانحة في خلوة ربما لن تتكرّر.

 لم يكن يدري أنه سيمضي ليلة استثنائية أقرب ما تكون إلى خلوة متصوف في جبل “تقصفه السماء بالبروق والمطر”. أشعل النار فحظي بشيء من الألفة، ثم هيأ له مكانًا للجلوس، ولكوب من الشاي، مستعينا بحقيبته وما فيها من لوازم يحافظ على وجودها دوما. وصف برجس تلك اللحظات وهو يشير مبتسما إلى مكان الكهف قائلًا: “حينما أشعلت النار تلاشى نصف خوفي، وبت غير مكترث بمن سيقلق في غيابي. رحت أحدق بخيوط المطر وهي تسقط على بوابة الكهف شعرت أني أراني عاريا من كل ما يتشبث بي من تفاصيل الزمن الجديد. كانت لحظة يختلط فيها شكل غريب من الحزن، بسكينة بدت لي حطت على الأرض للتو. وحينما أمسكت بالقلم ورحت أكتب من دون أن أعي ما أكتب تلاشى نصف خوفي الآخر، فتلبسني أحساس جديد، أحساس من رأى جناحين في كتفيه وصار قادرًا على الطيران”.

تلك الليلة كانت البوابة لروايته الأولى؛ إذ قال أنه أمضى ساعات الليل تلك وهو يتأمل تارة، ويكتب تارة أخرى. كانت لحظة مُني فيها بلذة عالية لم تنته إلا حين أشرقت شمس الصباح وبين يديه فصلان من رواية أطلق عليها عنوان ” مقصلة الحالم”.

يؤكد برجس أنه قبل تلك الليلة لم يكن يفكّر على الإطلاق بكتابة رواية. هل ذهب إلى الجبل الذي تروى عنه الكثير من السرديات بفعل قوة غامضة، ليصبح واحدا من أهم الروائيين العرب؟ يقول وعيناه تمسحان المكان بوعي تأملي كبير: “للمكان هيبة، وسطوة، وغموض محير أخذني إليه في ليلة ما زلت أصفها بالغامضة”.

تحدّث برجس باقتضاب عن تلك الليلة في أكثر من وسيلة إعلامية وخاصة في فيلم أعدّه وأخرجه الفنان معتز أبو الغنم، لكنه بعد أن أنجز كتابه “نشيج الدودوك” أخذ يسرد ما يحدث بالتفصيل:

“حينما عدت في الصباح وفي اليوم الذي يليه جلست إلى طاولتي لأكتب لكني عجزت؛ فعدت إلى الجبل وعلى مراحل أتممت كتابة الرواية”.

الليلة الغامضة التي أوقعتْ “جلال برجس” في غرام الرواية
الليلة الغامضة التي أوقعتْ “جلال برجس” في غرام الرواية الليلة الغامضة التي أوقعتْ “جلال برجس” في غرام الرواية

وفي سياق حديثه عن ظروف كتابة تلك الرواية قال: “لقد أتت شخصية (خالد) بطل الرواية بوعي قريب من وعي، حتى أن مخاوفي من الذئاب التي تحوم في الليل في ذلك الجبل قد انتقلت إلى الرواية وأنجزت صداقة بين خالد وذئب التجأ إلى الكهف”.

قال ضاحكا: “نعم خفت خاصة حين سمعت حركة عند باب الكهف، لكني حين وقفت تحت المطر ثم عدوت إلى رأس الجبل مصابا بتلك الحالة الصوفية؛ تلاشى ذلك الخوف الطارئ. كنت اشعر بالذئب يركض معي. لهذا جعلت خالد والذئب يعويان على رأس الجبل ويشكوان ما يوجع في الزمن الجديد”.

خالد بطل مقصلة الحالم. أمضى عشرين عاما في معتقل سياسي بتهمة لم يقترفها. وحين خرج من المعتقل وجد العالم قد تغير، واكتشف أنه يحمل سجنه معه. فلجأ إلى عوالم الإنترنت وهناك وقع في غرام امرأة أهدت له شكلا جديدا من أشكال السجون.

بدا لي الروائي جلال برجس محبا للأمكنة، ومهتما بتاريخها وبجماليتها، يتحدث عنها كما لو أنه يرى الذين كانوا فيها على قيد الحياة، ويروي ما جرى لهم، كأنه يروي حكاية لم يكتبها بعد.

Your Page Title