البناء الفكري للنشء في مواجهة السلبية وسلطوية الرأي

البناء الفكري للنشء في مواجهة السلبية وسلطوية الرأي
البناء الفكري للنشء في مواجهة السلبية وسلطوية الرأي البناء الفكري للنشء في مواجهة السلبية وسلطوية الرأي

أثير – د. رجب بن علي العويسي

مع ما تعيشه البشرية اليوم من فرص متنوعة لتحقيق التآلف والتكامل والتعاون والتضامن بين شعوبها، إلا أن عملية استثمارها لم تكن بتلك الجدّية التي تتوقعها الإنسانية الراقية الواعية بدورها، فما زالت تعيش وطأة التحزبات السياسية والفكرية المندفعة والايديولوجيات التي حولتها إلى غابة من الانتماءات المتوحشة التي تفتقر لنمط التعايش والتناغم المشترك، فأوجدت العديد من الأفكار الهشة، والممارسات المزدوجة، والقرارات المغتصبة، والمفاهيم المغلوطة، الداعية إلى سلبية الفكر ونمطية التفكير ونمو سلوك التكفير والتضليل والتعصب للرأي وغسل عقول الشباب بأوهام وخيالات وافكار معقدة ، وشعارات مظللة، وأهداف شخصية مغرضة، وتصوير الدين لهم في صور هشة أقرب ما تكون إلى متع زائلة، وخيالات وأوهام وأضغاث أحلام، فرسّخت في فكر الشباب، أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، حتى وإن ضاعت بسبب حُمقه واندفاعه وتهوره أمم، واندثرت حضارات، وتدهورت حياة البشر، وتغربت القيم، ومحيث آثار الشعوب وهوية الحضارات، وانتقصت من قيمة الحياة فقتلت الأبرياء والأطفال، كما أصبح الافتراء وحجب الحقائق وتشويه صورة الواقع جائزة والإشاعة متداولة، والسب والشتم في حق الأوطان عادة، فتداخلت المفاهيم مع بعضها حتى أصبح أحدهم لا يميز بين المسؤول الحكومي وبين الوطن حقوقه واستحقاقاته، بل امتد الأمر إلى حياة الناس اليومية.

لقد ضاعت بسبب سرعة الأحكام وسلطوية الرأي، القيم والأخلاق، وانتصرت الضغينة والأحقاد ، وزرعت الكراهية وزعزعت الثقة بين الشعوب وحكوماتها ، واتسعت لتنال منه التقنية – التي يفترض أنها جاءت لخدمة الإنسان وإسعاده- ، فوجهت أيدي البشر وعقولهم لتنال من بعضهم البعض، وسّخرت منصات التواصل الاجتماعي إلى النيل من حقوق الإنسان والمتاجرة بكرامته وتحجيم إنجازات الأوطان، وإثارة نوازع الذات وأنانية الطباع، وإدخال طابع التهكم والسخريات، وتضييع الوقت في القيل والقال، وإضاعة الجهد والمال، حتى أصبح كل شيء لا قيمة له في نظر هؤلاء، وإن لامس الحق صداه، أو توافق مع الصدق مغزاه، ولأنه لا يتناغم مع المزاج الشخصي المعكر بالأحقاد والكراهيات، ولا يرقى إلى  صدق الذات المسلوبة بداء السلبية وضعف الإرادة فوجدت في ذلك فرصتها للنمو والاتساع بين الناس، وكأن البشرية تريد حياة السماء قبل موعدها المحدد لها، تلك التي  لا ضجر فيها ولا لغو ولا تأثيما، إنّها داء يفتك بالإنسان، وكلمة السوء الساحقة لحس الذوق ومهنية الكلمة وضمير المسؤولية ، فتجتر من مقومات حياة البشر، جمالهم وسعادتهم وراحتهم واستقرارهم، وأمنهم وأمانهم، وتسلبهم قيمة العيش الصادق مع الذات والتعايش مع الآخر، بل تقف في وجه فرص البحث عن التجديد وقراءة الحياة بنهج جديد،  حتى وصلت النفوس إلى مرحلة الهذيان الفكري، والتذبذب المعرفي، والتخاذل العقلي، والخواء العاطفي، والخلط في المفاهيم ، والتضارب في القيم والأخلاق، وكأنّ كل شيء بات يحمل وجه الظلام في بؤسه، فقد ضيقوا على أنفسهم وحياتهم، والبسوها ضعف العاجز عن إنقاذ نفسه، أو وهن الخامل المعتمد كليا على غيره.

واجترت الأفكار السلبية والقناعات المزاجية مقومات حياة البشر اجترارا غوغائيا، غير قادرين على فعل أي شيء يضمن لحياتهم السعادة، أو يبني فيهم الأمل بغد مشرق، حتى بدت لهم الحياة في ثوب السواد الحالك، لقد أوهمنا أنفسنا وأقنعناها في غباء ذاتنا، أنّ كل شيء مسلّط علينا وموجه ضدنّا، فالهواء والماء والغذاء والمنتجات الاستهلاكية، باتت اليوم أمام سيل من الفتاوي التي لَيُظن أننا أردنا بها الحق وترك الريبة، وهي لعمري ، فضفضة النفس عندما تبتعد عن الهدف، أو تختار لنفسها الشقاء، وتضّيق عن نفسها  فٌرج الحياة، حتى ضاقت دائرة المباحات وقلّت عددا ونوعا، وأصبح البعض يشكّك في نفسه وقيمة حياته وأهمية وجودها ومكونات الكون ونواميس الحياة، غير مبال بمسؤوليته نحوها أو النأي بها عن مسالك الزلل وعواقب الشطط، وفي المقابل اتسعت دائرة المحرمات بسبب طيش تفكيرنا، وضعف تدبيرنا، وقسوة نفوسنا، وضيق صبرنا،  وبحثنا في تفاهات الأشياء، وتركيزنا على الخلل، ونسياننا لوجه الحياة المشرق في ممارساتنا الشخصية، فأهلكت الأفكار السلبية حياة البشر، في صورتها المخيفة الموحشة لتهدد كيانه، وتسيء إلى أخلاقة وترسم ملامح العجز والخوف فيه، وإغلاق مساحات التفكير والتأمل، والبحث عن البدائل، والتوسع في المعالجات، او مشاركة الاخر رأيه، والثقة في بناء مسارات الإنجاز القادمة، فترسخت في نفوس الأجيال  ثقافة السلبية والتواكل والاستمتاع بدون شعور، فهم غير أهل لتحقيق الإنجاز، وأن التقنية والعولمة غيّرت وجه الحياة المشرق لتضعه في كومة من الرماد المتناثر ، فضيعّت سلوكهم حتى أصبحوا أجيالا غير مبالية، ولا تمتلك حس المسؤولية والالتزام، وأنّ عالم ستديره الأجيال القادمة، سوف يتخلى عن إنسانيته وقيمه ومبادئه ونجاحاته وهويته. لم تكن السلبية اليوم إلا مرحلة تواطؤ الإنسان لسلب حقوق غيره، ودعوة للتخلي عن مبادئه، والثبات في قراءة الحياة بواقع الأمس فقط، مغلقة نوافذ الأمل، جامدة في قبول الرأي، فأنتجت جيلا جديدا، تسببنا في اختلاق الذرائع له، كقسوة القيم وهشاشة الأخلاق وانعدامية الحوار وركاكة الثبات على المبدأ، نزعنا منهم الثقة وأوهمناهم بأنهم غير قادرين على العطاء، ولا يمتلكون إرادة التغيير أو إصلاح الذات، فكانت بذلك صناعة بشرية خاسرة، تعدّت مسار الإنسانية الصادقة الواعية، واتجهت إلى  سلوك البهيمية العجماء- إن صحت المقارنة- في ظلمه وظلاله، واحتقاره وسخطه، وغضبه ونكرانه، وهيجانه وطيشه، وجبروته وسلطته،  حتى انتزعت من حياته سمه الوقار والحب والانتماء والاحتياج والمشاركة، واتجه إلى عالمه الشخصي المتجاوز لحدود الإنسانية في التصرف، فارتكب حماقاته  في الناس، وهلك وأهلك، فكانت ثقافة الكراهية والحقد والسامية، وحالات الإحباط والتشاؤم، والنفايات الفكرية، والقناعات البائسة، والثقافات اليائسة من الحياة، وحالات السُخط والوهن والتواكل، نتاج لهذه الترسّبات والتراكمات التي أنبتت في المقابل بيئات موحشة لا تؤمن بالآخر ولا تعترف بحقوقه.

من هنا فإن البشرية بحاجة اليوم إلى إعادة نمط تفكيرها في واقعها، ورسم خريطة جديدة تعتمد على ترقية فرص الاحتواء الكثيرة التي وجدت في حياة الإنسان، عبر تجديد الخطاب الديني والسياسي والمؤسسي والأسري وتغيير نمطه، وإعادة صياغة الممارسات وفق منظومة القيم والأخلاق والمعايير والخصوصية، والوقوف عند مسببات الفعل السلبي، وتعميق مفهوم المشاركة الواعية المتناغمة من مدنية الإنسان واحتياجه للآخر، وبناء مسارات أكبر للثقة والحوار والتواصل والعلاقات الإنسانية، القائمة على وحدة المبدأ وأخوة المنهج ومشترك المرجع، وإشعار الإنسان بالقيمة الإيجابية المضافة المختزنة لديه، وتعزيز فرص الاستمتاع بمواهبه وقدراته ومهاراته واهتماماته واستعداداته وابتكاراته، وتعميق شعور الإنسانية لديه عبر مشاركة العالم أفكاره واهتماماته وأولوياته.

Your Page Title