أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج
الليلة الأولى والأخيرة
الليلة الأخيرة لم تكن كبقية الليالي.
شيء فيها لم يكن عاديا. لا أدري لماذا شممت طوال اليوم رائحة الحرق والرماد كما لو أن غابة مجاورة كانت ثمرة للنيران، مع أن “الكانون” الذي تطبخ فيه أمي بالحطب، كان فارغا. حتى عندما تكون نار “الكانون” مشتعلة، فأنا أفرق بين حطب شجر الصفصاف، الزبوج (شجر الزيتون البري)، وشجر العرعر، أو شجر الأرز الحلبي، فروع الديس والقصب الجاف، ونباتات المرمان الميتة. لكل شجرة عطرها الذي يمكن تمييزه بسهولة حتى وسط أكثف الأدخنة. يتشبع الخبز في الكانون، بالعطر نفسه. كانت أمي تقول دائما: اليوم راح نخبز لكم بحطب الزيتون. تأتي الخبزات المهيأة من دقيق القمح أو الشعير، ممزوجة برائحة زيت الزيتون. والشيء نفسه بالنسبة للعرعر وغيرها من الأشجار.
من 1957 حتى تاريخ إلقاء القبض عليه، 1959، لم أر والدي إلا مرة واحدة بالصدفة. وكانت صدفة غريبة. لا أدري كيف حدثت لدرجة أني صدقت أو كدت، ما قالته جدتي حنا فاطنة، وأن كل ما حدث هو مجرد وهم، سببه الشوق للوالد.
قمت ليلا بغير ميعاد ولا نظام. تسللت من الغرفة تلك التي ينام فيها أبي وأمي وإخوتي. مشيت قليلا في الحوش. كانت السكينة كبيرة لم يكن يقطعها إلا نباح كلبنا الضخم “بوبي”. رأيت الضوء في غرفة حنا (الجدة). تأكد لي أنها لم تنم مع أنه ليس من عادتها. سمعت همهمة خفيفة. دفعت الباب بهدوء، وكان أملي أن أنهي نومي في حضن حنا الذي أحبه لدفئه الكبير ولحنانها. أعتقد أنها كانت أمي الأخرى. رأيت فجأة مجموعة من العساكر يتحلقون حول مائدة خشبية قديمة. بعضهم كان يجلس على السرير الحجري. في البداية خفت، لكني سرعان ما شعرت بالاطمئنان عندما رأيت والدي يلبس نفس لباسهم العسكري الكاكي. كانت هيئته جميلة وأحسست في داخلي بشيء من الغرابة والفخر. والدي ذلك الرجل الطويل والمستقيم، والبشوش دائما، لم يكن يضحك. كان جادا كالخوف. “كل شي يجي عليه” كما تقول الأم دوما وهي تتحدث عن هندامه. كان جميع الحاضرين معه بنفس اللباس. ركض ابي نحوي ليعيدني إلى فراشي، ويقبلني بشوق، لكن أحد الجند كان قد سبقه وسحبني نحو حجره: “خليه خويا أحمد يتعلم. الزمن اللي جاي واعر.” لا أدري إذا قال ذلك حقيقة أم أنا من تخيل المشهد ولغته. كانت هيئة والدي جميلة لكنها كانت مخيفة. كانت تلك أول مرة أرى فيها والدي وهو يحمل على ظهره سلاحه “مات 49″، منذ أن غاب بشكل فجائي. لما سألت أمي قالت: راح يبحث عن خدمة عند السبنيولي كامي Camille. بدأت أتأمل كل حركاته وهو يدخل ويخرج بحسب تواتر عمليات الحفر في حوش الدار، في مكان مطامير الحبوب. افترضت أنهم مروا ليأخذوا شيئا من الدار. شعرت بأن والدي تغير كثيرا ولم يعد كما رأيته في أول مرة عندما عاد من أرض الغربة. كان وجهه نحيفا، عيناه منشغلتان بشيء غامض، حتى وزنه بدا لي قد خف. على رأسه قبعة عسكرية، ولا يتحدث كثيرا. قبل أن يغيب بعد أيام من وصوله إلى القرية، وتأتي سرية عسكرية فرنسية برفقة حركيين (متعاونين جزائريين مع الجيش الفرنسي، وقد كان أذاهم كبيرا.) يبحثون عنه، لكنهم لم يجدوه. قالوا لأمي: “قولي له أن يأتي عند لاساس SAS(الفرع الإداري المختص)، نحتاجه.”
ولا أدري لماذا استسلم والدي للجندي الذي سحبني نحو حجره، وتركني أجلس مع الجند؟ لا أذكر من ذلك الجندي الطيب إلا ابتسامته، وهو يتمتم: “لا تخف يا ابني نحن من الخاوا (الإخوة. محاربو الاستقلال).” ثم أخرج من جيبه قطعة حلوى مغلفة بورق ملون، ووضعها في كفي الصغير، فأشعرني ببعض الراحة، انسحب الخوف كليا. لكن بعدها مر كل شيء بسرعة. دخل شخص عليهم، همس في أذن والدي، فخرجوا جميعا بنظام بعد أن سمعت خرخشة أسلحتهم في الوقت نفسه، بعد أن محوا كل أثر لزيارتهم. عرفت لاحقا أنهم فتحوا المطمورة وأخرجوا الأسلحة التي كانت مخبأة فيها، ثم اغلقوها ثانية وكنسوا التربة حولها، وكأن شيئا لم يكن. أخفاها والدي في انتظار أن يأتي من يأخذها. منذ عودته من أراضي الغربة التي لم تكن غربة بالنسبة له، انتمى والدي إلى خلية شبكة تمرير الأسلحة من الحدود المغربية ومن الساحل الغربي الممتد بزرقته المريبة. كل شيء كان يتم ليلا. ضمني والدي إلى صدره، تمنيت أن يطول ذلك كما في المرة الأولى، ثم وضعني في حضن حنا، أعتقد أنه مر بعدها على أمي، ودعها أيضا، ثم ركض وراء رفاقه بعد أن مسح على ظهر بوبي لكيلا ينبح.
فجأة، بعدما غادر الجند البيت وغرفة حنا، شعرت بفراغ غريب وببرد شديد في كامل جسمي. لا أدري إذا كنت قد سالت حنّا فاطنة عما رأيته لأني في تلك الليلة نمت بصعوبة، على الرغم من أن حضنها كان دوما سريري الدافئ. ضمتني طويلا. قرأت حيرة في عينيها. ما يزال إلى اليوم عطرها القديم، مزيج من ماء الزهر وعود النوار وقشور البرتقال، يخترق أنفي وكل حواسي. عندما أردت أن أسالها عن والدي وضعت إبهامها على شفتيَّ، وتمتمت كمن يصلي في خلوة: “لا لا حبيبي مجرد حلم. أنت ما شفت والو. أبوك من ساعة ما عاد من الغربة، ذهب ليبحث عن عمل في رحى كامي.” استغربت. هل كان كل ما رأيته مجرد حلم؟ كابوس؟ حزنت. لم يكن والدي بتلك الهيئة الجميلة التي رأيته فيها، بلباسه العسكري؟ لم يعطني الجندي قطعة الحلوى التي التصق جزء منها بضرسي؟ ووضعت غطاءها الورقي في جيبي؟ تحسست برأس لساني بقايا قطعة الحلوى، كانت هناك. مددت يدي إلى جيبي، تحسست غطاء الحلوى، كان هناك أيضا. قبل أن أسال حنّا من جديد، قالت كأنها أحسب بكل حركاتي وحيرتي مرتسمة في عيني: “لا حبيبي، لم يكن إلا حلما. من شدة الوحشة، الكثير من أحلامنا تأتينا بشكل فجائي لدرجة أن نظن أنها حقيقة، ولكنها ليست كذلك. والكاغط (الورق) تاع الحلوى اللي في جيبك، هو من الحلوى اللي أعطيتها لك البارحة. أنت تحب تلعب لعبة أوراق الدراهم بكواغط الحلوى ولهذا تخفيها في جيبك” كلامها صحيح، لكن ليس هذه المرة. رفضت أن أصدقها في أعماقي. لا يمكن لحنّا أن تسرق مني المرة الوحيدة التي رأيت والدي. فقد قهرتني عندما قالت وكأنها قرأت كل شيء في حيرتي: أما الحلوى العالقة بضرسك، هل نسيت أنك قبل أن تنام جيت عندي وأعطيتك واحدة من البوقال في غفلة من أمك؟” رددت عليها بخيبة. ” نعم يا حنا. صحيح، ولكن…”. “ما كاين حتى لكن. أنت حلمت ولم تر شيئا.” حسمت بذلك النقاش. العالم كله يكذب إلا حنّا فاطنة، فهي فوق كل شيء. صدقت دوما كل ما كانت تقوله لي، لكن في تلك الليلة كان من الصعب عليّ فعل ذلك. وحتى تبعدني عن مشاهداتي، والبيت والجيش، سحبتني نحو حكاياتها الساحرة، تحديدا نحو قصة “جنان الهبيل”، فغرقت معها في القصة “وعلاه سموه الهبيل يا حنّا؟”. تجيب وهي تحكّ على شعري “إيه يا واسيني وليدي، لو تعرف واش صار له مسكين؟ كل الجنان والأشجار التي انتقاها لها بدقة، وأثّث بها قصره على الوادي الرقراق، كان من أجلها. يوم حزنه بكت السماء، واجتمعت الأشجار كلها عند رجليه وبكت معه طويلا حتى أصبح منذ ذلك اليوم وادي جنان الهبيل مالحا من كثافة الدموع التي ملأته. خانته شميسة، وفضّلت عليه الرومي ولد الرومية.” حقيقي ماء جنان الهبيل مالح. شربت منه مرة واحدة عندما رافقت جدتي لتأتي بالديس والحطب وقصب الوديان، للكانون. ليلتها نمت في حجرها وأنا أفكر في الهبيل، وهو يصدح في جنانه الفارغ إلا من أصوات الذئاب التي تكاثر عواؤها في الآونة الأخيرة، وأصبحت تقترب من الوادي المالح.
“أنا الهبيل ولد الهبيلة
بابا عربي وأمي قبايلية.
باعتني لالة شميسة بالرومي ولد الرومية.
آه يا وعدي لو كان العقل يرجع ويولّي،
ما نخليش شميسة تخبّلني،
اللي يبيعك بالفول، بيعوا بقشوره.”