أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج
مِنْ توقُّف محركها، وسحب فراملها اليدوية التي تحدث عادة صوتا جافا، عرفت أنها سيارة جيب العسكرية التي أخذت والدي في ذلك اليوم القاسي.
كنت تحت التينة البرية الخشنة، التي تفرعت أغصانها حتى أصبحت تغطي الممرات ودار عمّي، ألعب أنا والحسين لعبة الكويرات في الرحبة الصغيرة التي نظفناها، بحيث لا يراها الكبار ويحرموننا من اللعبة. والدي الوحيد الذي كان يعرف المخبأ بسبب وشاية مني. في مرة من المرات خسرت كل كويراتي التي كانت معي في اللعب. كان بكر أكبرنا وأشطرنا. أخبرت أبي أنهم سرقوها مني ولم أخسرها في اللعب. ترصدهم طويلا، وانتظرهم حتى تجمعت كل الكويرات في المثلث، ثم هجم عليهم، فطار كل واحد في اتجاه. جمع كل الكويرات التي كانت في المثلث، وتلك التي سقطت من بين أيديهم بسبب المفاجأة، جمعها كلها، ثم فتح جيب سروالي، ووضعها كلها فيه، وهو يقول:
“- في المرات القادمة لا تلعب مع الغشّاشين.”
في الحقيقة كنت أنا الغشاش، لأني لم أتحمل خسران كل كويراتي أثناء اللعب.
أوقفنا اللعبة تلقائيا، ركضنا نحو الفجوة التي صنعناها داخل الهندية (الصبار) بحيث نرى كل شيء ولا يرانا أحد. كانت سيارة “جيب” تقف تحت الهندية بالضبط، في الممر المؤدي إلى الطريق العام الذي تسلكه عادة السيارات التي تمر من هناك.
أطل الحسين ابن عمي من الفجوة بعد أن دفعني قليلا إلى اليسار. صرخ: يا يمّا عمي أحمد مسكين. ينزل من الجيب مقيد اليدين؟ واش دار لهم؟ لم أستطع التحكم في حركتي. دفعته نحو اليسار. رأيت والدي يرفع رجله اليمن ثم اليسرى وينزل من السيارة. لم يكن مقيد الرجلين. لكن يديه كانتا مربوطتين خلف ظهره. شعرت برعب داخلي.
عندما التفت نحو الحسين لأسأله عما يجب فعله، كان قد هرب.
كيف أخبر أمي؟ لابد أن تكون قد سمعت محرك لاجيب. فكرت أن أركض لأخبرها بسرعة، لكن في اللحظة التي شرعت فيها في المرور عبر المريرة الصغيرة المؤدية إلى بيت عمي، ومنه إلى بيتنا، سمعت الحركي (الخائن، المتعاون مع المستعمر) منصور يأمر الحركي عليّ، عرفته من صوته، هو نفسه الذي أسقط أمي الحامل وحاول رفسها لولا تدخل والدي مع الضابط الذي بدا طيبا.
– علي، جيب البتِّية (قصعة حديدية لجمع الماء) والماء والصابون رانا تحت التينة، والحق بنا. لازم دين أمه يتقيأ اليوم كل ما يعرفه. صبرنا عليه كثيرا.
– أمرك عمي منصور.
الممر الوحيد المؤدّي إلى بيتنا، كانوا هم فيه. لكن أوامره لعلي أعطتني فرصة للنجاة من خالبهم. عدت على أعقابي. صعدت إلى الشجرة التّينة البرية الثقيلة، وتشبثت بأقوى وأعلى غصن فيها. شجرتي المتوحشة وأعرفها جيدا. أعرفها جيدا. كنا عندما نلعب لعبة “الغمايضة” أصعد وأتخفّى فيها. وكان القليلون يتجرؤون صعودها حتى النهاية ليروا السماء. يحتاجون إلى قرد مثلي لكي يقفز على فروعها بسهولة.
شعرت بالخوف والبرد.
ماذا سيفعلون تحت الشجرة؟ كم تمنيت لحظتها أن أستأنس بعباءة أمي التي ظللت ملتصقا بها. رائحة قماشها كانت تعطيني الكثير من الأمان.
– ادخلوا ادخلوا، الله يدخلكم لجهنم.
صوت الحركي منصور، يعطي أمر الدخول إلى البيوت وعدم البقاء عند الباب. تخيلت أمي وأخواتي، تحديدا أختي زوليخا المرتبطة جدا بوالدي، وهم يفجؤون بالمشهد. زوليخا كانت أكثر المتضررين يوم اعتقاله. لم تتوقف ابدا عن البكاء. بدا لي لحظتها كأني سمعت نشيجها.
حاولت ان أرى من أعلى الشجرة فناء الدار، لكني لم أر إلا سماء من جديد وزنك ورماد، لا روح فيها، بل كانت مخيفة مع أننا كنا في فصل الربيع، حيث تنتعش الطبيعة كليا، وتصبح مغرية للركض واللعب في الحقول الممتدة من دشرتنا حتى غابة الطاگا.
تشبثت أكثر بالشجرة العملاقة، بالخصوص عندما عرفت أنهم يتجهون نحوها.
تساءلت في أعماقي حتى لا يسمعني حتى الندى. لماذا أتوا بوالدي نحو هذه الشجرة التي لم تعد تنجب شيئا؟ ربما ليسألوه براحة ودون ضغط؟ وقد يكون هو من اختار المكان بعيدا عن أمي وإخوتي؟ طيب، لماذا البتِّية والماء والصابون؟ ما معنى هذا؟ ليغسل وجهه من تعب الرحلة من السواني حتى الدار؟ لماذا كان الحركي علي ينزع الدرگات (قطع الهندية المشوكة)، ويراكمها فوق بعضها. ماذا سيفعل بها؟ نقول عنها “هندية الشوكة المسمومة”. لأنها إذا مسّت شوكتها البيضاء الحادة شخصا، يستمر ألمها لأيام لدرجة أن يظن أنّ رأس الشوكة انكسر في رجله ولم يخرج. لم أفهم جدوى ذلك؟
أخذ علي الحركي يخلط الماء بالصابون في البتِّية حتى كون رغوة وفقاعات، غطّت على الماء كليا.
كنت سعيدا أن منصور كان يتعامل مع والدي بأدب:
– خويا أحمد سامحنا، ما كنّا حابين نصل إلى هذه الحالة.
صمت والدي. كان واقفا يداه وراء ظهره.
– ممكن تنزع الرباط من على ظهري. وعنقي ويدي.
– لو عليّ ما عندي مشكل. لكنها أوامر القبطان. ما بيننا إلا الخير. أنت رجل مليح، ومتحضر، وجاي من فرنسا بلاد الخير والخمير، والحضارة وراحة البال، لولاها لظللنا رعيانا وقبائل متقاتلة.
– شكرا منصور. يمكنك أن تخفف من قيدي.
– شيء واحد أضمنه لك، إذا قبلتَ أن تتعاون معنا، لن يحدث شيء.
– في ماذا؟
– في السلاح وقائمة الخلية التي تنشط في تهريب الأسلحة من الحدود المغربية حتى هذه الأمكنة. كل أصحابك شهدوا ضدك. عليّ ابن قريتك لم يرحمك، أنا من جبالة، بعيد، لكنه من هنا ويعرف الصغيرة والكبيرة. قدم الدليل القاطع بأنك تخفي الأسلحة في المطمورة.
– شفتو المطمورة وما وجدتم شيئا.
– هذه يا صاحبي قلها للرومي مش لي. أنا نعرف العربي كحل الراس على واش قادر. وأعرف قاعدتكم “قاوم 24 ساعة، وبعدها احك ما تريد؟” نزعنا لحمك ولم تقل شيئا، وبعدها قلت فتشوا المطامير إذا شئتم.
– وفتشتموها ليل نهار وقلبتموها، ماذا وجدتم؟ لا شيء. هذا يعني أن من اتهمني ظلمني.
– أنا ما نحبش نكون عنيفا معك، لكني أؤكد لك، اليوم إما تقول الحقيقة أو تترك روحك هنا. كان ممكن أن تُقتل من المرة الماضية كما أبناء عمومتك، عمك الحاج محند إبراهيم، والسي الهبري، لكن فضلنا أن نمنحك فرصة للنجاة. فلا خيار أمامك، إما التعاون معنا أو التعذيب لدرجة أن تتمنى الموت في كل ثانية. الخيار لك.
فجأة تأكد لي أن كل محاولات منصور الطيبة كانت زائفة. كان يتحدث بشكل ثقيل وآمر.
صمت أبي قليلا. لاحظت أنه كان في صحة جيدة، مثلما رأيناه آخر مرة في سجن السواني. لم يبد عليه أي خوف. كان مستكينا مسلما لما كان في داخله.
في الوقت الذي كان فيه العساكر يتموقعون داخل الهندية وفي محيطها، لم يبق تحت الشجرة إلا والدي والحركيين عليّ ومنصور، والرجل الأفطس بسلاحه الرشاش.
– ابرك. قلت لك ابرك.
بقي والدي واقفا. لم ينحن. قرّب الحركي علي البَتِّية المليئة بالماء والصابون حتى مست رجليه. تساءلت بسذاجة: كيف سيغسل والدي وجهه من تعب الرحلة وهو مكتف، ويداه إلى الوراء.
سمعت صوت السلاح الذي قرقع من جديد، كأنه يتهيأ لإطلاق النار. كان يعلن عن شيء كنت أجهله، لكنه أخافني كثيرا وجعلني أرتاب من كل ما كنت أراه.
كان المشهد قاسيا. والدي أحمد، أسد الطّاگة يكسر بتلك الطريقة. حتى عندما زأر أرعب الحركي. دفع بعيدا حتى وهو مكتف، لدرجة أن اصطدم رأس منصور الحركي بالشجرة بعد أن سقط أرضا. واهتززت أنا فوق وكدت أسقط. قام الحركي وضرب والدي بعقب سلاحه على خده، فسال خيط من الدم على وجهه. ثم ضغط على ظهره بمساعدة الأفطس وأجلساه على ركبتيه بالقوة. نزل الحركي عليه رفسا وركلا، وهو مكتف، يداه إلى الوراء ورأسه إلى الأمام، ليس بعيدا عن البتّية المليئة بالماء وفقاعات الصابون.
– تضربني ونسيت أن روحك بين كفّي؟
– لن تكون إلا صغيرا يا منصور، وسيأتي وقتك وسترى. لو كنتَ رجلا ما تجرأت على ضرب شخص مكتف اليدين.
في تلك اللحظة تمنيت أن أملك قوة ملاك الموت وأنزل عليهم جميعا وأحولهم إلى عصف مأكول كما علمنا سيدي سعيد الفقيه، في الجامع، عندما قال عن المشركين: “كانوا كثرة ويريدون تحطيم الكعبة، ورجال الرسول قلة، عددهم لا يكاد يذكر. فأرسل الله عليهم طيرا أبابيل، هي مثل الطائرات الحربية اليوم، ولكن بدون محركات، الأبابيل أسرع من الصوت وأخطر من الجني. بدأت ترميهم بحجارة من سجيل، هي عبارة عن تربة مغموسة بماء الجنة، وفي عمقها حمم جهنم. صغيرة لكنها في الداخل محشوة بالبارود الشديد الانفجار لم يصنعه بشر. لا تخطيء هدفها أبدا، ليست موجهة بآلة، ولكن بقدرة القادر.”
تمنيت لحظتها أن يكون كلام الفقيه حقيقة. انتظرت وأنا أنظر إلى السماء، لكن لا طير أبابيل، ولا حجارة من سجيل، فكرهته. وقلت في نفسي، إذا لم يحدث ما حكى عنه الفقيه الآن، قبل أن يمسوا والدي بمكروه، سأوقف ذهابي للجامع.
“كل هذه الأسلحة الإلهية الفتاكة ووالدي يموت أمامي؟ وأمام الله، بلا أية ردة فعل؟”
كنت خائفا من أن أنزلق من فوق، لهذا أدخلت رجلي بين فروع الشجرة، حتى إذا حدث حادث ما، لن أسقط بين أيديهم، وسأظل معلقا مثل خفاش، في غرفة مظلمة.
اغمضت عيني منتظرا الفرج الإلهي الذي سينزل حتما، لكن السماء ظلت باردة مثل قطعة حديد قديمة. التصقت بجذع الشجرة أكثر فأكثر. تخفيت وراء الأوراق الكثيفة ولم أترك إلا فجوة صغيرة كنت أرى من خلالها كل شيء، دون أن يراني أحد.
فجأة رفع والدي رأسه إلى السماء. لا أدري إن رآني، لكني شعرت فجأة بأنه رآني وبقي مثبتا عينيه في عيني برهة قليلة. رأيت ابتسامة تنزلق من شفتيه، تتخلل نظرته، وترسم ظلالا غامضة على وجهه المدمى، وتتماهى مع شعاع الشمس الذي اخترق فجأة كل أغصان الشجرة العملاقة.
رأيته في تلك اللحظة يفتح عينيه عن آخرهما ثم يغمضهما، منكسا رأسه.
كان جالسا على ركبتيه، بالضبط، وسط الدائرة الضوئية التي رسمها شعاع الشمس.