أخبار

عبدالرزاق الربيعي يكتب: كاظم الساهر .. أسرار صناعة الأسطورة الشخصيّة

عبدالرزاق الربيعي يكتب: كاظم الساهر .. أسرار صناعة الأسطورة الشخصيّة
عبدالرزاق الربيعي يكتب: كاظم الساهر .. أسرار صناعة الأسطورة الشخصيّة عبدالرزاق الربيعي يكتب: كاظم الساهر .. أسرار صناعة الأسطورة الشخصيّة

أثير- عبدالرزّاق الربيعي

بعد أن انتهى المطرب كاظم الساهر من أداء أغنية، في الحفل الأول الذي أقامه في “الأوبرا السلطانية: دار الفنون الموسيقية” وصفّق الجمهور، سادت لحظات صمت، كان “القيصر” يفكّر خلالها في الأغنية القادمة، فارتفعت أصوات الجمهور بأسماء أغانٍ ترغب بسماعها، وبقي ساكنا، كأنه لم يسمع الأصوات، حتى طلب أحد الحضور أغنية “عبرت الشط”، فرفع نظره إلى الجمهور، وأشار بيده إشارة الرفض وقال” خلاااااص”، بما يعني أنه غناها كثيراا، وواصل الغناء وبعد دقائق، فاجأ الجمهور بأداء أغنية ” عبرت الشط على مودك”، هذا الموقف كافٍ لتوضيح علاقة الساهر بالجمهور، فهو يضع مسافة محسوبة لا يقترب كثيرا منه ولا يبتعد، بل ، كلّ شيء لديه محسوب بدقّة، لذا تجنّب اللقاء بالصحفيين، ووسائل الإعلام، باستثناء لقاء سريع حضرناه بمعيّة الصديقين :سيف المعولي، وخالد عرابي، بتنسيق مع قسم الإعلام في دار الأوبرا السلطانية مسقط، وفي لقاء سابق جمعني به بحضور الصديق الشاعر كريم العراقي في جناحه بفندق حياة مسقط رحّب بي كشاعر، ورفض رغبتي باغتنام فرصة الزيارة في إجراء حوار صحفي معه، كونه لا يميل إلى التعاطي مع وسائل الإعلام كجزء من شخصيته، واحترمت رغبته، ولاحظنا في زيارته الأخيرة لمسقط تجنّب لقاء الجمهور، والتقاط صور معه، لذا خلتْ مواقع التواصل الاجتماعي من صور شخصية له تجمعه به، حتى ساعة كتابة هذا المقال، لكنه خلال الحفل الذي حضرناه مساء الخميس ، لاحظنا أنه كان يصغي لطلبات الجمهور، بل كرّر أكثر من مرّة: ماذا تحبون؟ شعبي أم قصائد؟ وكانت أصوات الجمهور ترتفع، مطالبة بغناء قصائد، وهذا دليل على أنه ارتقى بذائقة الجمهور، وجعله يفضّل القصائد على الأغاني الشعبية، ذات الإيقاعات الراقصة.
وفي لقائنا به، سألناه عن سبب عدم غنائه لشاعر عماني، أظهر حرصه على ذلك، بدليل أنه في ألبومه الجديد غنّى نصّا لشاعرة اسمها (جمانة)، من اليمن، وكنت أتمنّى، بعد أن اتفق مع دار الأوبرا السلطانية مسقط على الغناء فيها للمرة الرابعة اختيار نص لشاعر عماني من باب توجيه التحية للبلد المضيف المعروف بأنّ خلف كلّ صخرة من صخوره شاعر، وإذا لم يأت ذلك عن هذا الطريق، قد يأتي توجيه التحية عن طريق أداء أغنية، كما فعلت أمّ كلثوم في زيارتها لبغداد عام 1935 م حيث غنت أغنية لسليمة مراد “قلبك صخر جلمود ماحن عليّ” خصوصا وأنه سبق له أن غنّى للدوحة في الحفل الذي أقامه ضمن فعاليات مهرجان الدوحة الأول ( في الدوحة في ليلة جميلة) التي سبق له أن غناها عام ١٩٩٤ وكان النص من كلمات الشاعر العراقي وسام العاني، كما أخبرني.


وواضح أن فرقته الموسيقية تفهم باللمح حركاته وسكناته، فحين توقّف خلال أدائه أغنية (الحب المستحيل) تأثّرا، في الحفل الثاني، عندما صدحت حنجرته بشطر بيت نزار قباني ” أيا امرأة تمسك القلب..” ولم يكمل الشطر” بين يديها”، توقّفت الفرقة الموسيقيّة فجأة تضامنا مع لحظات صمت حنجرة الساهر الذي أدار ظهره للجمهور، واستمر الصمت عدّة ثوان، ولم يكسره سوى تصفيقه، فعلاقته مع الجمهور علاقة فيها تناغم وانسجام، وعلى خلاف ردّة فعل العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ عندما قاطعه الجمهور بالصفير والغناء خلال أدائه أغنيته الأخيرة” قارئة الفنجان” ربيع عام 1976 م، على خشبة مسرح نادي الترسانة في القاهرة حين قال لهم ” أنا أيضا أعرف أصفّر” وراح يصفّر مثلهم، فاستفز عددا من الجمهور أكثر، وهاجمته الصحافة، أقول: على الخلاف من ذلك، ابتسم” القيصر” عندما كان يغني (التحديات) وتحديدا في مقطع القصيدة التي كتبها الشاعر نزار قباني “إنني أسكن في الحب” ارتفع صوت فتاة تغني من مكانها بصوت مرتفع بلغ مسامع الساهر طغى على صوته، وطلب من الفرقة الموسيقية التوقف، وبابتسامة عريضة خجولة، أشار لها إشارة تعني “تعالي غني بدلا مني” فضحك الجمهور، وصفّق له وواصل أداء أغنيته، فعالج الموقف بروح مرحة و”رياضية”
ذكرني بموقف جرى معه عندما زارنا في مقر جريدة الجمهورية عام 1993 وضمتنا جلسة معه، واجرى الإعلامي كرم نعمة حواراً معه ، أثار بعد نشره جدلا ،  فدخل المصور الفوتوغرافي الراحل فؤاد شاكر، وكان رحمه الله معتدا بنفسه، وأخذ يلتقط صورا للساهر خلال حديثه، ولأن الفنان فؤاد كان مصورا بارعا في البورتريهات، لذا اقترب كثيرا من وجهه وواصل أخذ لقطات قريبة وفي كل صورة كان ضوء الفلاش يومض كالبرق، وهنا تململ الساهر، وأطلق إشارة تعنى” كفى”، كانت كافية لكي يتوقف الفنان عن التقاط الصور، ثم سحب الفيلم، ورماه على الأرض ومضى إلى غرفته في آخر غرفة من الطابق الثالث من بناية الجريدة، وكان مقر قسمنا في الطابق الرابع، وواصل الساهر حديثه كأن شيئا لم يحدث، وبعد انتهاء الحوار وقبل أن يغادرنا قال” يبدو أن المصور زعل مني، لابد أن أذهب إليه وأعتذر” وبالفعل ذهب إليه في غرفته، معتذرا، ورغم ذلك، بقي الفنان فؤاد متجهم الوجه!


لكن الساهر قدّم مثالا في التواضع، والتعاطي الإيجابي مع الأزمات التي مرّت وتمرّ به، وهي ليست قليلة، ويكفي أن جمهوره في العراق يأخذ عليه عدم غنائه ببلده منذ أن غادره في 1997م، وكانت آخر زيارة له مع منظمة اليونسيف التابعة للأمم المتحدة في مايو 2011م بعد تقلّده منصب سفير النوايا الحسنة لرعاية أطفال العالم ، كونه سفير النوايا الحسنة، وكانت زيارة بروتوكوليّة، وكذلك يأخذ عليه المنتقدون أنّه لم يسهم في أعمال يعود ريعها لخدمة البلد مثلما يفعل الموسيقار نصير شمّة الذي سخّر شهرته، وكرّس وقته لخدمة قضايا بلده وإعمار بنيته الأساسية، رغم أنه غنّى للعراق، وأطفاله تحديدا، لكن تلك الأغاني لم يجدها المنتقدون كافية لتأكيد مشاركته الوجدانيّة في أوجاع بلده، غاضّين الطرف عن جهوده في نقل الغناء العراقي والموسيقى واللهجة العراقية للجمهور العربي والعالم، وتحبيبه بها.

وفي الحوار الذي أجرته ” أثير” مع القيصر، وحين عبّرنا له عن رغبة جمهوره في العراق بلقائه متسائلين: إن كانت هناك عودة قريبة، ردّ بأنّه يحمل بلده معه أينما كان من خلال الموسيقى، وهي إجابة شعرية، يحاول من خلالها الحفاظ على (شعرة معاوية) المثل الذي أستنبط من قول الداهية معاوية بن أبي سفيان” لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، فكنت إذا شدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها شددتها”، فإجابة الساهر لا تغني من جوع ولا تروي شيئا من ظمأ جمهوره في العراق، لكنّه يحافظ فيها على علاقته مع الجمهور، وهو هدف يحرص عليه، بشكل شديد، على الدوام.

وأرى أن هذه العلاقة هي التي صنعت أسطورته الشخصية، فهو يتمتع بذكاء اجتماعي يوازي موهبته الصوتية والموسيقية، ويعرف أن الفنان بلا جمهور يغنّي مع نفسه، وهذا الذكاء وظّفه بشكل كبير لخدمة فنّه، فهو أول مطرب عراقي أوكل أمور حفلاته إلى مدير أعمال (الصديق منذر كريم) في مطلع التسعينيات، واشتغل بصبر نحلة على صنع نجوميته، واهتمّ بتفاصيل لم يكن سواه يراعونها كترتيبات لحظة صعوده على المسرح، ومواجهته الجمهور، وخروجه، واختياراته لكلمات أغانيه، وألحانه، وحرصه على تطوير نفسه، وحتى الحفاظ على لياقته الجسدية من خلال مداومته على برنامج تمارين رياضية تصل لأربع ساعات في اليوم، إلى جانب برنامج تغذية صحي، حتى بدا لي حين التقيته، وكنت بمعية الصديقين :سيف المعولي، وخالد عرابي، أن المطرب الذي بلغ الخامسة والستين من العمر( تولّد عام 1957) كأنه، بلا مبالغة، ابتلع نصف سنوات عمره!

فهو يعرف أن (الصوت) السليم في الجسم السليم، والروح الشابّة دوما وثّابة في ميدان الإبداع الفنّي، وهو الذي جعل منه يستحقّ أن يضع على رأسه تاج ( قيصر الأغنية العربيّة).
علما بأنّ لقاءنا جرى قبل خروجه للجمهور بدقائق قليلة، وحين أخذت مقعدي بين الجمهور، وأطلّ على المسرح، فاشتعل التصفيق، وصدحت حنجرته، فتساءلت مع نفسي: هل هذا (المارد) الذي يتجلّى في الأداء الغنائي على خشبة مسرح “الأوبرا” هو نفسه الذي كان يتباسط معنا في الحديث ويرحّب بنا بمفردات ترحيبية عراقية، قبل دقائق؟
ومَنْ يتمكّن من الإجابة يكون قد سلك طريق الكشف عن أسرار أسطورته الشخصيّة.


Your Page Title