زاوية تربوية

لماذا تُعد حوكمة ممارسات التعليم ضرورة ملحة؟

لماذا تُعد حوكمة ممارسات التعليم ضرورة ملحة؟
لماذا تُعد حوكمة ممارسات التعليم ضرورة ملحة؟ لماذا تُعد حوكمة ممارسات التعليم ضرورة ملحة؟

أثير- د. رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة

تعد الممارسة التعليمية الواعية نتاجات عملية لجملة التفاعلات ممزوجة بخلاصة التجارب وأفضل الممارسات والخبرات التعليمية التراكمية والنوعية لمنظومة التعليم بكل أبعادها ومستوياتها ونظمها وآلياتها، وبالتالي يصبح التزامها مسار الوضوح والمهنية والابتكارية واعتمادها على منهجيات حكيمة وأساليب مقننة وأدوات محكمة وأطر محوكمة وقواعد بيانات متجددة، محطة تحول لصناعة الفارق وإنتاج القوة التعليمية التي تظهر في الكفاءة الإنتاجية لمؤسسات التعليم من مدارس ومعاهد وأكاديميات وكليات وجامعات ، والعكس صحيح فكلما كانت الممارسة التعليمة غير واقعية قائمة على العشوائية والاجتهادية، وتوجهها أجندة الأشخاص وتفتقر إلى معايير واضحة تحتكم إليها، أو منظومة تقييم ومتابعة ورصد وتشخيص ورقابة مهنية تبيّن الصواب والخطأ ونسبة الانحراف الحاصل فيها، كلما انعكس ذلك سلبا على أداء المنظومة التعليمية وظهرت فيها مساحات أوسع لنمو الهدر والفاقد التعليمي الشامل وتغلغل جراثيم التعليم ومشتتاته ومرهقاته في مكوناتها، لذلك يثار بين فترة وأخرى بأن هناك مؤسسات تعليمية ناجحة وانتهجت مسار للتحسين والتطوير وضمان الجودة، واستوفت معايير الاعتماد الاكاديمي أو المدرسي، في حين أن هناك مؤسسات تعليمية أخرى تم إغلاقها لأنها لم تستوفي شروط الاعتماد الاكاديمي وما زالت ممارساتها التعليمية والإدارية والفنية تدور في حلقة مفرغة غير قادرة على استيعاب التحول الحاصل في منظومة التعليم والطموحات المتعاظمة للدول والحكومات وخططها الوطنية التشغيلية القصيرة والمتوسطة وبعيدة المدى.

على أن انحراف الممارسة التعليمية عن غاياتها وأهدافها ، يمثل كارثة للتعليم ، ويتطلب إعادة هيكلة شاملة تحدد أسباب هذا الانحراف الفشل والمبررات حوله والنتائج المترتبة عليه، خاصة في ظل عدد المنتسبين لهذه المنظومة والفئات العمرية التي تستهدفها وبخاصة فئة الشباب، وما يمثله هذا القطاع في حجم المورد البشري الوطني من رقم صعب مقارنة بقطاعات العمل المختلفة؛ فإن التأثير المترتب على هذه الثغرات والسقطات التي تحصل في المسار التعليمي سوف يكون لها عواقبها الكبيرة على نظام التعليم برمته ومستوى الحاكمية التي يتعامل بها مع مؤسساته ومدى تفعيله للصلاحيات وتوظيف الممكّنات التي تحول دون الوصول بهذه المؤسسات إلى مرحلة الفشل أو الاغلاق – مثل ما نشاهده اليوم من إغلاق لمدارس وكليات، وبالتالي الصورة القاتمة التي تتولد لدى مخرجات هذه المؤسسات أو الذين في مقاعد الدراسي وتلاحقهم سنوات طويله، ذلك أن الهوية المؤسسية والصورة التي تطبعها في قناعات الخريج والمتعلم والتي تتولد لديه حول مؤسسته التعليمية سترافقه سنوات طويله في مساره المهني فهو يفتخر بأنه خريج مؤسسة حصلت على الاعتماد الأكاديمي وينظر إليها المجتمع نظرة تقدير واحترام، وما زالت مخرجاتها ترفد سوق العمل الوطني، ويفخر بأنه في يوم ما كان أحد مخرجاتها، لتبقى ذكريات التخرج حاضرة له ولأبنائه وللأجيال الأخرى التي يعمل معها أو يقوم بتدريسها ، بل أن المسألة تتعدى ذلك ليكون لها تبعاتها النفسية والفكرية والقناعات الذاتية غير السارة لدى الخريج من مؤسسة أغلقت بسبب عدم التزامها واستيفائها معايير الجودة واشتراطات الاستدامة والكفاءة .

لقد حظيت الممارسة التعليمية في أفضل الأنظمة التعليمية حول العالم بمزيد من الرقابة والتشخيص والتحليل والمراجعة، واتجهت هذه الأنظمة إلى تقييم مؤسساتها وحوكمة الأداء عبر تقييم وقياس الأداء المؤسس ومنظومات الاعتماد الأكاديمي التي حددت للمؤسسات موجهات العمل ومؤشرات القوة الحاصلة، والصورة التي يجب أن تنتجها الممارسة بعد عملية الاعتماد، والرقابة الحاصلة على المناهج والممارسين التعليميين وثقافة المدرسة والجامعة في إطار حوكمة الأداء وكفاءة التشريعات وجاهزية البرامج ومهنية الأدوات ووضوح المسارات بالشكل الذي يمنعها من أي خروج غير مبتكر عن النص، فمع الصلاحيات التي منحت لها إلا أنها تعمل وفق سياسات وأطر واضحة المعلم، وتمتلك من التشريعات والقوانين والضوابط الداعمة لتوجهاتها، فلا يوجد توجه غير عملي أو سلوك شخصي يقوم على إرضاء فرد بعينه بل عمليات التشخيص والتحليل والرصد والضبطية وتحقيق معايير الجودة ورفع سقف التوقعات ورفع درجة الاستعداد والجاهزية في التعامل مع المستجدات تمارس بشكل مهني وقانوني ، بل أن مرونة القانون تتجه إلى إنتاج برامج نوعية قادرة على صناعة التحول الجديد في ظل اللحاق بالثورة الصناعية الرابعة ومهارات القرن الحادي والعشرين وتعزيز حضور المهارات الناعمة والتقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي وغيره كثير.

ويبقى وضوح الممارسة التعليمية واستقرارها وضبطها ومستوى وعيها بالحالة المجتمعية وقدرتها على معالجة التحديات والأزمات التي تواجهها المنظومة بكل احترافية ومهنية وفي إطار من الشراكة والمسؤولية والحوار والفهم النابع من الحرص المشترك على تحقيق الأهداف الوطنية العليا في ظل اعتراف الممارسة ذاتها بحاجتها إلى تكاملية في الجهد وتفاعل في الأطر، بما يسهم في نقل التعليم من قاعات التدريس والصفوف الدراسية إلى بيئة الأعمال ومحطات الاستثمار وتعزيز الاستدامة الاقتصادية وإنتاج الوظائف ، فإن قدرة الممارسة التعليمية على الانطلاقة بالتعليم في سلطنة عمان إلى للمستقبل يستدعي قراءة معمقة لمسار الممارسة التعليمية في المدارس والمعاهد والكليات والجامعات والتي يجب أن تتقاطع إيجابا مع رؤية عمان 2040 ومستهدفاتها التعليمية في مختلف محاورها وخاصة ما يتعلق منها بالإنسان والمجتمع، الأمر الذي يؤسس لصناعة وإنتاج القوة التعليمية وقدرتها على تحقيق متطلبات التنمية، والوفاء بالتزاماتها الوطنية والإنسانية والتنموية، في ظل توجهات السلطنة الاقتصادية والفرص الاستثمارية العملاقة التي يجب أن يساهم التعليم بكفاءة في رفدها بالكفاءات الوطنية الواعدة، فالممارسة التعليمية القائمة على تعظيم دور المهارات الناعمة والمهارات الرقمية والتطبيقات العملية للتجارب وإدارة المواهب وإعادة انتاجها وصقلها وتعزيز برامج البحث العلمي وبراءات الاختراع والاكتشاف سوف تؤصل لقدرة التعليم على تحقيق المرتكزات التعليمية الأربع في تطوير التعليم العالمي، كما يمنح التعليم حضورا واسعا في قدرته على إعادة هيكلة منظومة العمل والتخصصات المهنية وتحقيق المواءمة مع سوق العمل الوطني وصناعة وإنتاج الوظائف في مواجهة تحديات الباحثين عن عمل والمسرحين وسيطرة العمال الوافدة على المهن الهندسية والأساسية والعليا في القطاع الخاص.

أخيرا فإن على التعليم الوطني اليوم أن يعيد انتاج الممارسة وتصحيح الفجوات وسد الثغرات ويعالج الإخفاقات الحاصلة في تعلم الطلبة نتيجة غياب الحوكمة عن بيئة العمل واقتصارها على الموجهات العامة التي قد لا تتدخل في التفاصيل الداخلية لحركة التفاعلات التعليمية الحاصلة في المدارس والجامعات، ذلك أن حوكمة الممارسة التعليمية وتأطير فلسفة عملها، وضبطها بالتشريعات واللوائح والمعايير والأسس التي تحقن الممارسات التعليمية غير الموجهة بأنسولين الجودة ومعيار النوعية وضابط الأدوات وتنوع الخيارات وكفاءة الأساليب وترقية عمليات الرصد والتقييم والمتابعة المهنية لها، والرقابة المستمرة على ما يحصل من تفاعلات ومستجدات في بيئة المدارس والجامعات وتشخيص واقعها وتهيئة البيئة المناسبة لتطورها وقوتها، وادماجها في واقع حياة المتعلم والمجتمع وتهيئته للعيش في ظروف صعبة وواقع متغير، الطريق لبلوغ التعليم مستهدفات الوطن ورؤيته المتعاظمة، فإن الانحراف العكسي للممارسة التعليمية، سوف يكون له تبعاته غير السارة على التقديرات الدولية والمحلية لكفاءة الأنموذج العماني في التعليم.

Your Page Title