خاص – مكتب أثير في تونس
حاوره: محمد الهادي الجزيري
الصدفة وضعتني أمام أستاذ جامعي ومؤلف كتب وشاعر يجيد ترويض الكلمات والأوزان، إنّه الطائر الطليق بسّام الشارني، حمل معه موهبته وعلمه وحبّه لبلاده وحجّ إلى مشرق الشمس، إلى ظفار والنّاس الطيبين، ومعه جرى هذا الحوار الشيّق الذي يعكس معرفته وحبّه للحياة، فحدّثنا عن مجيئه إلى عُمان وعن علاقته بطلبته وعن أشياء كثيرة، قبل أن نختم الحديث بقصيدة سلّها من روحه فجأة كما السحرة، وهي عن ميناء ريسوت.
– ما الذي قادك إلى مشرق الشمس، فبعد القيروان فجندوبة حيث عملت بكلية الآداب والمعهد العالي للعلوم الإنسانية، حلّقت بعيدا إلى جامعة ظفار، فكيف تمّ ذلك؟
احتضنت مدينة القيروان وتحديدا كلية الآداب برقادة بداية تجربتي بالتعليم العالي. ثم انتقلت سريعا إلى مدينة جندوبة حيث التحقت بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية هناك. وامتدت بي السنوات ركضا حتى وجدت نفسي أستعد لخوض تجربة جديدة في بلاد أخرى.. فكانت السلطنة هي الوجهة، وكانت جامعة ظفار هي محطتي الثالثة في التعليم العالي. والحق أن التحاقي بجامعة ظفار جاء نتيجة أمرين: أحدهما ذاتي، والآخر موضوعيّ.
فأمّا الذاتيّ، فيتمثذل في رغبة راودتني في اقتحام تجربة جديدة، مختلفة، واكتشاف ثقافة لا أعرف عنها أكثر ممّا يتناقله المهاجرون المغتربون هنا من أخبار ومواقف استخلصوها من تجاربهم المتفاوتة طولا وقصرا، فحصل عندي انطباع طيّب عن البلاد وأهلها كوّنته سَماعا، وشجّعني على المضيّ في خوض التجربة.

وأمّا الأمر الموضوعيّ، فهو الوضع العامّ بإيقاعه الرّتيب، الذي حملني على التفكير في تغيير أجواء باتت متكرّرة، ثابتة المذاق، ونسق بطيء لم يعد كافيا ليدفع بي إلى الأمام، ولم يعد صالحا ليستفزّني على الاندفاع أبعد من موطئ قدمي. فخيّرت تغيير الأجواء، لعلّ في الانطلاق بعيدا طلاقة وتجدّدا وحياة أخرى تستحق أن تُكتَشَف وتُعاد..
ثمّ قيّض لي الله من الأصدقاء من ساندني ومدّ يد المساعدة الكريمة إليّ، وهما الأصدقاء الأعزّاء: الدكتورة هاجر الحرّاثي زميلة الدراسة والتدريس معًا بجامعة صُحار، والدكتور مراد الحاجّي الذي ذلّل أمامي صعوبات جمّة وسهّل التحاقي واندماجي بجامعة ظفار، والصديقة حياة البوسالمي التي شجّعتني كثيرا على المجيء وهم من كفاءات الجامعة التونسيّة المقيمة بعُمان فلهم منّي جزيل الشكر ووافر الامتنان.
ـ تعلّلت بحداثة العهد في التجربة، ولكنّها فرصة لكي نسألك: عن المجتمع العماني، وكيف وجدت أجواء العمل خاصة أنّك أوّل مرّة تغادر فيها أرض الوطن؟
فعلا هذه هي تجربتي الأولى في الابتعاد عن أرض الوطن، ولأصدقك القول لم يكن الأمر هيّنا بالمرّة.. فليس من السّهل على الإنسان الذي قضى سنوات عمره الأجمل بين ربوع وطنه أن يتركها ويخيّر الحياة في مكان آخر مهما كانت المدّة التي سيمضيها مغتربا قصيرة.. فالغربة شعور أكبر من أن يُقاس بمقاييس الزمن وحساب السنوات..

على أنّ الذي خفّف وطأة الشعور المرير بمفارقة الوطن والأهل والأصدقاء ما وجدته هنا في هذا الشعب الشقيق من ليونة في التعامل، وعزوف عن تعقيد الأمور، وطبع سمْح أدنى إلى الطيبة، وأعْلَقَ بالبساطة الخالية من كلّ تكلّف، وأوْثق صلة بالانفتاح وتقبّل الآخر المختلف، وما لمسته في الحياة العمانيّة من سهولة المعاملات ممّا عاينته وعايشته عن كثب من خلال أجواء العمل المميّزة داخل القسم، وفي عموم الجامعة، أين تشعر بالارتياح لوجود فريق عمل مميّز حريص على أن تتوفّر كلّ أسباب النجاح لأساتذة القسم، فالجميع متعاون، متفهّم، وهذا في اعتقادي أهمّ شروط النجاح في العمل أيّ عمل كان.
ـ تحدّثت مع عديد المقيمين في السلطنة، فما راعني أنّهم يركّزون على مبدأ اختلاف الثقافات في هذه الأرض، وأنّهم تعلّموا ويتعلّمون من هذا التنوّع والتعدّد ..ما هو أفضل؟
ليس في الأمر شكّ ولا اختلاف في أنّ الاختلاف جوهر الثراء، وأنّ التنوّع علّة التقدّم.. ولعلّ من لم يعتد في سابق تجاربه ثقافة الاحتكاك بالآخر، ولم يجد نفسه ذات يوم يقف متطلّعا إلى صورته في مرآة الغير، يستصعب الأمر للوهلة الأولى، ويجده غريبا، بل مضنيا ومربكا، ولا يستشعر الراحة والطمأنينة.. ولكنّ الأمر سيختلف بعد ذلك، وسيكتشف المرء أنه كان ينظر إلى نفسه بعين واحدة، وأنّ مرآته الوحيدة لم تكن صادقة في عكس الصورة بمختلف جوانبها.. هنا أنت تعيد اكتشاف ما أنت قادر عليه حقّا، وما أنت عاجز عنه.. ما اكتسبتَه وما فاتك اكتسابه.. هنا في قلب المواجهة الثقافيّة والحضاريّة مع آخرك المختلف يسقط ثوب الكبرياء المزيّف، ووهم الكمال الكاذب، وتنكشف للمرء عوراته التي كان يسترها بورق هشّ.. أعني تلك النقائص التي لا يخلو منها كائن.. ولذلك تجد في الاختلاف رحابة، وفي التنوّع جوهر الإنسان الحقّ، وعندها فقط يمكنك أن تقول: إنني محدود ونسبيّ.. وإنّ الآخر يعيد إليّ توازنا لابدّ منه في طريقة وعيي بذاتي، وتقدير مؤهلاتي.. كما أعيد إليه أنا أيضا جانبا من توازنه المفقود.. ولذا فإنّ الأفضل للإنسان أن يلتقي نظيره المختلف، وشبيهه المغاير، فتكون للّقاء قيمته الإنسانيّة أوّلا، والمعرفيّة أيضا.
ـ الطالب العماني ..هل وجدت صعوبة في تدريسه الأدب الجاهلي ..أم إنه مطواع سلس رأيك فيه؟
إنّ ما يميّز الطالب العماني انطلاقا من تجربتي القصيرة أمران: أوّلهما طواعيته للتعلّم، بمعنى أنه يريد أن يتعلّم ويُفيد ممّا يُقدَّم إليه من المعارف. أمّا الأمر الثاني، فأخلاقه العالية، واحترامه الشديد للمدرّس ولزملائه.
وهاتان الميزتان يمكن أن يُعَوَّل عليهما في دفع الطالب إلى التجويد والتحسين وتطوير مكتسباته. ومن الطبيعيّ -في تقديري- أن أجد بعض الصعوبات الناتجة عن اختلاف المناهج وطرائق التدريس بين البلديْن. على أنّها صعوبات يمكن تجاوزها وتذليلها بتيسير الطرائق والاستماع إلى الطالب كلّما رغب في الحديث عن صعوبات تعترضه، وإنطاقه أحيانا بما يجد صعوبة في البوح به. بهذه الطريقة تمكّنت من كسر الحاجز النفسيّ بيني وبين طلبتي، وعوّدتهم تدريجيّا على الطريقة التي أريد لهم أن يتمكّنوا منها، وهي تذوّق نصوص الأدب العربيّ القديم، والقدرة على تفكيكها وقراءتها قراءة تتفاعل مع واقعهم الحيّ. وكثيرا ما تظهر من ملاحظاتهم وأسئلتهم وأعمالهم درجة التقدّم التي أحرزوها في تحليل النصوص ومناقشة قضاياها. على أنّ الأمر يحتاج بعدُ إلى نفس طويل، وجهد متّصل لإدراك الأهداف التي نريد بلوغها جميعا.

ـ إضافة إلى مهامك التعليمية.. تنتج كتبا قيمة منها “الحرب صورتها ودلالتها في شعر أبي الطيب المتنبي” وكتاب “التناص في شعر أبي نواس”، وتستعدّ لنشر كتاب جديد بعنوان: “ذاكرة النص وشعرية المفاوضة”، فهل تفضلت ببعض الجمل المفاتيح لهذا الإصدار الجديد؟
يتنزّل مشروع كتابي ذاكرة النص وشعريّة المفاوضة في سياق اهتمامي القرائي بالنص المتفاعل، وتعالق النصوص، وحواريّة الأدب. وهو امتداد لأطروحة الدكتوراة التي أنجزتها حول التناص في شعر أبي نواس. ويتأسّس الكتاب على فرضيّة ينطلق منها وتتعلّق بشعر عمر بن أبي ربيعة، مفادها أنّ شعريّة هذا الشاعر لم تنقدح جذوتها من موقد العصر الذي عاشه، والظروف الاجتماعية والسياسيّة التي عرفها العصر الأمويّ آنذاك، وإنّما انقدحت في جانب كبير منها من مواقد شعراء آخرين تأثّر بهم، ونسج على مناويلهم، وكانوا في عصر مختلف تماما عن عصره، ولم يعيشوا الظروف ذاتها التي عاشها. وأحاول أن أستثمر في هذا الكتاب المنهج البينيّ الذي يأخذ بمقاربات مختلفة، معيدا قراءة تجربة هذا الشاعر من زاوية لم أجد من الدّارسين من طرقها سابقا.
ـ هل تعرّفت على أماكن جميلة بظفار، خاصة أنّها في فصل الخريف تصبح جنة على وجه الأرض؟
تتميّز ظفار بطبيعة ثريّة يجتمع فيها الجبل والمحيط والصحراء. وقد مكّنتني إقامتي –على قصرها– من اكتشاف مناطق طبيعيّة جميلة، ومواقع أثريّة ترتدّ إلى زمن غابر. واكتشفت في المنطقة جمالا خاصا يميّزها عن غيرها، وخاصة في فصل الخريف الذي يقابل فصل الصيف عندنا، حيث يتغيّر وجه المنطقة تماما، وتكسوها الخضرة، وتتفجّر عيوان الماء وشلالاته، ويحلّ الرذاذ ضيفا مقيما.. فتغدو صلالة منطقة ساحرة بامتياز، وتستقبل سيّاحها الوافدين من كلّ بقاع الأرض.
ولقد زرت مناطق مختلفة الطابع، فصعدت جبل سمحان وجبل القمر الذي تعانق قمّته الغيوم، فتذكّرت جبل ابن خفاجة الذي (يلوث عليه الغيم سود عمائم)، وزرت منطقة مغسيل الجميلة، وجلست على ميناء ريسوت وطرق الشعر بابي، فقلت:
اللِّحاظُ المِرَاضُ وهي تُمِيتُ والعُيُـــونُ التي تقُــولُ : فُدِيتُ
والشّفَـاهُ التي تَعَضُّ حيَــــاءً أنْ يُــرَى لُـؤْلُـؤٌ ودُرٌّ شَتيتُ
والعطُـورُ التي يَضُوع شذاها مَخْـدَعُ الآنسَــاتِ مِسْـكٌ فَتِيتُ
والبداياتُ مِنْ سَحيق الأقاصي عبَقٌ راحِلٌ ، ومَجْــدٌ، وصِيتُ
والبيُـــــوت التي تُطلّ عليْـنا هاتفَـــاتٍ : هنا القلوبُ بيُوتُ
والجبَــــال التي تعانق غيْمًا كاد من سحرها يَرى العمّيتُ
تلك رَخْيُوتُ فكْـــــرةٌ تتجلَّى بيْتُ شِعْـــرٍ أفْضَى به الملَكُوتُ
آه ثمْرِيتُ ! أيُّ قصَّـــةُ عشْقٍ لم تُـدوَّنْ فُصولُـها .. ثَمْريتُ !
ويْحَ نفسي ! من أين أبدأ نصّي والبدايَــات كلّها : رَيْسُــوتُ ؟