خاص – مكتب أثير في تونس
إعداد: محمد الهادي الجزيري
رَغْمَ الخَمْسينْ
لَمْ تَنْقُصْ عاداتي الرعْناءُ،
كَأنْ:
أتَلَعْثَم في المجلسِ،
أرْجُف مُرْتَبكاً عند حديثي لامْرأةٍ
أعدو في قارعةِ الرمضاءِ بلا خُفَّيْنْ
أو تَضْحَك إحداهُنَّ فَتَشْطُرُني نِصْفَيْنْ
أو يَخْذلني الأصحابُ فلا أحْكي
أو آتي الليلَ بكُرْسيَّيْنْ:
ــ كرسيٌّ لي وحْدي
ــ والآخرُ كيْ أبدو لي اثنيْنْ
بهذا المقطع الذي سبق لي أن استعملته في إحدى قراءاتي للشاعر الفذّ حسن المطروشي، أبدأ رسمي له بالكلمات..، هو طفل لا شكّ في ذلك رغم افتكاك الخمسين وبعض الأعوام.. لصوره الأولى وذاته المتعبة الهائجة المنفلتة..، نعم اخترت هذا المقطع من قصيدته المتوجة بجائزة توليولا الإيطالية للشعر العالمي، لأنّه يلخّص المبدع كما يجب، يومأ بقوّة إلى الجمال ويرنو بعزم لا متناهي إلى الحرية..، لا يخجل من تلعثمه قدّام الناس والزحام، ويفعل قدر ما يستطيع دائما، لكي يظهر لنفسه ولأعدائه وأحبابه أكثر من واحد، بل اثنين وأكثر..، إنّنا في حضرة المتعدد المتحد، يقول ما يفعل ويفعل ما يقول، وهذا قدر المبدع الذي يريد القمة..، ونظنّ أنّه باطراد ماض في تسلّقه ومواظب على معالجة اللغة ومقايضة الذات الزائلة بأجمل وأروع وأصدق الكلمات..، هيّا بنا نحتفل به قدر ما يتحّمل هذا النص الاحتفائي..، رغم صعوبة ذلك، فصعب أن تلخّص شاعرا فريدا في سطور…

يقول الناقد والشاعر الدكتور إبراهيم السعافين عن ديوان “ليس في غرفتي شبح” إنه يكشف عن تجدّد لافت لمسيرة الشاعر المتألّق حسن المطروشي…، تلك المسيرة التي لم تقف عند ملامح أو خصائص معيّنة، ولكنها تفاجأنا دائمًا بالجديد والمدهش، وهما المسوّغ الحقيقي لحيويّة الإبداع، وتوهّج التجربة، شعر حسن المطروشي يضرب بجذوره في تراث الشعر العربي، ولكنه لا يقلد ولا يحاكي، بل يهضم ويمثّل، ثم يبدع ويجدّد، ويَمْضي شوطًا بعيدًا في دروب الحداثة، في الرؤية وَفي اللغة، من حيث المعجم والصورة والإيقاع”.
نعود إلى قصيدة (النَّسْلُ المطرود)، لنقتطف منها مزيدا من عذوبة الشعر وفداحة الإحساس بالوحدة والغربة والخوف من الآخرين الواقفين في العتمة..، إنّه الشعر لا أقلّ ولا أكثر:
“ما ثمَّةَ مِنْ أَحَدٍ،
ما مِنْ أحدٍ في هذا القَفْرِ
سوى جسدي،
أنا صاحبُ هذا الظلِّ،
أنا النَّسْلُ المطرودُ،
أُنَقِّلُ قَبْري منذُ قُرونٍ في الفَلَواتْ
لي أعداءٌ كُثْرٌ..كُثْرٌ،
لا أعْرِفُهُمْ،
وَقَفوا في العَتْمَةِ
ينتظرون قُدومِيَ بالسنواتْ
لي نُدَماءٌ كُثْر..كُثْرٌ،
لا أذْكُرُهمْ،
لا يذْكُرُني أَحَدٌ،
ما شأني مَشْغولٌ بقياماتِ الأمواتّ؟!”

نال الشاعر بمجهوده ومقابل إخلاصه لموهبته عدّة تكريمات وتتويجات وجوائز، لعلّ أهمّها:
– وسام الثناء السلطاني، سلطنة عمان، الشخصية الشعرية المكرمة لمهرجان الشعر العماني العاشر عام 2017
– جائزة توليولا الإيطالية للشعر العالمي عام 2019
– جائزة أنور سلمان للإبداع ببيروت 2022
– جائزة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء ، أفضل إصدار في الشعر الفصيح لعام 2021
هذا إضافة إلى مشاركاته الكثيرة في الوطن العربي وفي العالم ..والحفاوة به أينما حلّ فهو سفير الشعر الصافي والراقي الجميل..
قال في آخر ردّه عن سؤال لأثير، في 10 فبراير 2022، في وصف قصائده بالغنائية:
“أنا من بيئة بحرية تموت على صوت البحارة وأهازيجهم على اليمان وعلى النهمة وعلى صوت الدان وعلى أصوات الفلاحين وغناء الأمهات وأصوات الطبيعة، كذلك طبيعة حياتنا ( السفر، والغياب، والفقد اليتم) وهناك الكثير من الأشياء التي أسهمت في تكويننا وبالتالي صار هذا الوجع الشجن هذا الملمح عميقًا في تكويننا ويصعب التفلت والانسلاخ منه، لكن شخصيًا أرى العيب عندما تتحول القصيدة إلى قصيدة إطرابية مجانية فقط للتقريب والاغتيالات الرومانسية الهائمة بدون محتوى فلابد للقصيدة من طرح السؤال، وأن تحوي فلسفية عميقة “كتب عماد الدين موسى مقالا مكثّفا عن صدور مجموعة “مكتفيا بالليل” بعنوان: حسن المطروشي مُكْتَفِياً باللَّيل وحَفيف الشَجر، بتاريخ 31 أكتوبر 2017 في موقع ضفة ثالثة، وممّا حبّره في هذا الشأن:
“النبرة الهادئة أو الهمس الشِعريّ الخافت ما نجده في قصائد “مُكْتَفِياً بالليل”، بدءاً من عنوان المجموعة الرئيس، مروراً إلى القصائدِ، عنواناً تلو الآخر وقصيدةً تلو أخرى؛ وقد تعلو هذه “النبرة” قليلاً أو تخفتُ أكثر، كما لو أنها موجُ البحر أحياناً أو حفيف الشجر أحياناً أخرى؛ إلا أنها تُبقي على وحدة المشهد الموسيقي بالرغم من تعدد الأصوات وتداخلها “.
“باسْمِ المَقْتولِ وقاتِلِهِ
أتَقَدَّمُ عُرْياناً نَحْوَ الطوفانِ وأعْبُرهُ وَحْدي
لَمْ يَفْتَأْ هذا الدمُ
مِلْءَ عُروقيَ مُحْتَشِدًا ضِدِّي
لَمْ أُكْمِلْ بَعْدُ أحاديثي في النومِ إلى جَدِّي
ــ مَنْ أنتَ؟ أصيحُ،
يقولُ: «أنا ناموسُكَ، فَلْتُقْبِلْ.
إني أَوْرَثْتُكَ مُهْرَ الأرضِ فَطُفْها مِنْ بَعْدي
إني أَوْرَثْتُكَ جُرْحًا يُدْعَى الحُرِّيَّةَ يا وَلَدي”
تناولت إحدى الصحف كتابه النثري، المتضمّن لمقالاته في إصدار جديد حمل عنوان بريد المحطات، احتوى مجموعة واسعة من “المقالات في هواجس الذات والكتابة” ، وقد انتقوا من المقدّمة التي صاغها الشاعر فقرات هامّة، إن دلّت على شيء ..فعلى الثقل الكبير الذي يتحمّله حسن المطروشي ..بتوّرطه في دغل الكتابة والأرق والوجع:
“الكتّاب وحدهم من نذروا أنفسهم للحديث بالنيابة عن الجميع، وفتحوا صدورهم مشرعة أمام الريح لتحمل أصواتهم وتوزعها في مجاهيل الكون، إن المسكون بهاجس الكتابة كائن هش ومخترق من القلب.. يشعر أن كل لحظة يعيشها هي آخر لحظة له في الحياة، وأن عليه أن يقول كلمته الأخيرة للعالم قبل أن يغادر، ويترك هذه المحطة إلى الأبد. إنه الرعب الوجودي المزدوج الذي قال عنه غابرييل غارسيا مراكيز: “يمكن لرعب الكتابة أن يكون غير محتمل، مثل رعب عدم الكتابة”
قدّمه زاهي وهبي مقدّم “بيت القصيد” يوم 22 فبراير 2020، فأجزل له التكريم:
“شاعر متميّز مرموق يُعتبر من أبرز الأصوات الشعرية في سلطنة عُمان ومن الأسماء الحاضرة بقوّة في المشهد الشعريّ العربيّ المُعاصِر، تنوّعت موضوعاته وانشغالات قصيدته ضمن مروحةٍ واسعةٍ من القضايا والعناوين تبدأ بهواجس الكائِن الفرد ولا تنتهي باستحضار البيئة العُمانيّة الثريّة الواقعة على تقاطع حضاراتٍ وثقافاتٍ وصراعاتٍ لا تنتهي، بحّارٌ قرويّ غير متصالح مع المُدن كما يصف نفسه لكنّه جال الكثير من العواصم والمدائِن ونال الكثير من الجوائِز في (عُمان) والعالم..”
قد أصدر أعماله الشعرية (2003 ـ 2019) عن مؤسسة “الانتشار العربي” في بيروت، ومن ضمن من كتبوا عن هذا الإصدار، الشاعر الراحل الكبير محمد علي شمس الدين الذي حبّر هذه الكلمات القيمة : “يكتب المطروشي قصائده بضبابيةٍ موحيةٍ، والضبابية في الشعر تقدّم منطق الاحتمالات الخصب على منطق اليقين المحدد”. ويشير إلى أنّه “حتى أولئك الذين قدّموا الحكمة في البيت أو القصيدة، كالمتنبي أو أدونيس اليوم، فإنهم خففوا من يقين الحكمة القاطعة بدوران اللغة وحيلها الكثيرة وبثّ الالتباس في اليقين، من خلال وجوه اللغة واحتمالاتها التي جاءت بين أيديهم حمّالةَ أوجهٍ أكثرَ ممّا هي أداةَ إثباتٍ لمنطقٍ شعريٍّ صارمٍ..”
“أنا حارسُ مَقْبَرَةِ الأسْلافِ الغَرْقى
لي عُكّازٌ أتأبَّطُهُ في الرقصِ كقُرْصانٍ ثَمِلٍ،
أو لَهْوي مُنْتَشِياً في زُمْرَةِ أطفالٍ حَمْقى
لا نَعْبَأُ مَنْ مِنّا سَيَطيرُ ومَنْ يَبْقى!
لَمْ أبْرَحْ مُمْتَشِقًا سَيفَ الثوّارِ
وأرْكُضُ في أرَقي
لَمْ يَنْقُصْ ليلُ كوابيسيِ،
ومواعيدُ الغرباءِ على طُرُقي
لا نَهْرَ يسيلُ بلا قلقي؟!”
ختاما لهذه الالتفاتة لأحد كبارنا الأفذاذ..، نرجو أن نكون قد أوفيناه حقّه..، ونرجو له دوام الصحة والعافية، حتّى يكمل هذه المسيرة الموفقة، ويتحفنا بمزيد الشعر في زمن اختلاط الحابل بالنابل…