فضاءات

الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب لـ “أثير”: حَارِسُ الشِّبَاكِ؛ خَسَارَةٌ واحِدَةٌ لا تَصْنَع قَدَرًا أَسْوَدَ

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج

أتساءل أحيانا، من أين جاءتني فكرة اعتبار الكاتب شبيها لمتسابق المسافات الطويلة ونصف الطويلة Coureur de fond et de demi-fond؟ ما العلاقة بينهما؟ كلاهما يبدأ بتفحص القوة المتوفرة لديه، والتحكم فيها، ثم تلمس المحيط الذي ستدور فيه وقائع السباق. قبل أن ينطلق، لا يفكر في شيء إلاَّ في “الانتصار” دون الشكّ في القدرات الخاصة المبطَّنة فيه. الرهان الأكبر هو كيف يتحمل الرحلة القاسية وكيف يجابه صعوباتها وفي رأسه طبيعة منافسيه وخصوصياتهم ونقاط والقوة والضعف فيهم. يتخطى قدراته الجسدية والفكرية، دون أن يستسلم لمشقتها وآلامها، لا ينشغل في النهاية إلا ب”الانتصار” وإسعاد جمهور متعاطف معه في انتظاره. مراحل السباق مهمة ولا يمكن التساهل مع أية لحظة فيها، لكن الذي يبقى ويحدد السباق كليا هو: الفينش (نهاية السباق) Finish، عليه يترتب الانتصار من عدمه. أهم ما في الكتابة في النهاية هو المنجز النصي.

في النهاية، الكاتب ومتسابق المسافات الطويلة ونصف الطويلة يخضعان لنفس المراحل الثلاثة: الانطلاقة الجيدة، التحمل وعدم الاستسلام للصعوبات، ثم النهاية ونجاح التجربة وإرضاء الجمهور.

كلما عدت إلى الطفولة حيث كنت أركض بلا توقف في الحقول المترامية على مرمى البصر، في القرية، التي اجتاحتها اليوم الخرسانة التي دمرت نسيجها الطبيعي، فهمت سر الشغف بالرياضة الذي بدأ بالسباقات القروية، أو ما كان يسمى بالعدو الريفي، وانتهى بي إلى كرة القدم.

بدأت تجربتي الرياضية المنظمة عندما التحقت بالكوليج والثانوية في مدينة تلمسان، إذ أصبحت بسرعة حارس مرمى أصاغر وداد تلمسان (واحدة من أهم الفرق الوطنية سابقا) باسم مستعار التصق بي زمنا طويلا “لاستيك” الذي يعني “المطاط”، أو الإنسان المطاطي. حتى عندما كنت أعود إلى القرية مرة كل شهر، لأني كنت في النظام الداخلي، يتسابق عليَّ أصدقائي للعب معهم في مقابلات القرية. وكثيرا ما كان النقاش يحتدم: لاستيك يلعب معنا، فقد لعب في صفوفكم في المرة الماضية. وكانت الجهة التي ألعب لصالحها تملك الحظ الأوفر للفوز بالمقابلة، أو على الأقل هذا ما كان يبدو لأصدقائي. أتذكر بعض ارتماءاتي وتمططي حتى الزوايا لإنقاذ المرمى من أهداف محققة. كنت ارمي بنفسي بكل قواي، نحو الكرة، على الرغم من أن الملاعب وقتها لم تكن معشوشبة.

كيف بدأ هذا المسار الرياضي الذي استمر طوال فترة لعبي مع أصاغر الوداد، في ثانوية بن زرجب وملحقته الثانوية المختلطة؟ بعد مقابلة كرة القدم بين أصاغر ثانويتنا التي كنا نفخر بها بأنها أكبر ثانوية في إفريقيا (يومها كانت الجزائر مولعة بنعوت العظمة، أكبر ملعب، أكبر مؤسسة، أكبر مصنع، أكبر جامعة، أكبر ثانوية، بينما كان إنسان ما بعد الاستقلال يكبر في صمت على الحواشي، بأحلام أكبر وبخيبات كان من الصعب عليه تصديقها وقبولها، إذ كيف لورثاء دم الشهداء أن يصبحون سادة الظلم والخيبات، بالخصوص بعد الانقلاب على أول رئيس مدني: أحمد بن بيلا. ثلاث سنوات كانت كافية لتحويل مسارات البلاد نهائيا، وحلم “اليابان الصغيرة” تبخر بسرعة.)
داخل ذلك المناخ المتناقض كبرت، وكبر معي شغفي الكروي.
لهذا يوم جاءني أستاذ الرياضة السيد نافا، وهو لاعب هجوم أيضا في فريق وداد تلمسان، ليشكرني على أدائي البطولي كحارس مرمى ثانويتنا، كنت أسبح فوق غيمة. نافا يشكرني؟ أتذكر كلماته الطيبة والحذرة: كنت حارسا رائعا. هل يقبل والدك أن نسجلك في فريق الأصاغر لفريق وداد تلمسان، حتى تتعمق تجربتك وتصبح محترفا؟ أنا الحارس الذي لم يعرف مرمى من شباك وأخشاب في حياته، وكان يكتفي مع أصدقائه بوضع حجرتين من كل جانب لتشكيل المرمى؟ لم أصدق. لقد بدا لي الخبر أكبر مني ومن إمكاناتي.


أصبحت مشدودا لمقابلات الوداد أكثر. أتابعها كل أسبوع في الملعب، ضد تغنيف، تيارت، معسكر، غليزان، وغيرها. قبلها كنت أفعل ما يفعله أصدقائي في الكوليج. ننزل يوم الأحد نحو ملعب الأخوين زرقة. لا نملك نقودا لشراء البطاقات. أقف أمام مدخل الملعب، وألتصق بشخص كبير ذهبت نحوه، فلم يرفضني، ليدخلني معه إلى الملعب، لأن الأطفال المرفقين بآبائهم يدخلون مجانا. أو يناديني أحدهم، قرأ شغفا كرويا في عيني، فيأخذني من يدي كأني ابنه. أتأمل الواقفين المصطفين للدخول، مزهوا وأقرأ حزنا في عيون أصدقائي الذين لم يجدوا من يتبناهم. كل الذين كنت أذهب نحوهم كان بهم شبه بوالدي، أو ربما كنت أتخيله. أدخل فيبدو الملعب واسعا ومرعبا قليلا. أحلم. أهرب نحو المدرجات الأقرب إلى اللاعبين، كنت أعرف بعضهم لأنهم كانوا أساتذة رياضة في ثانويتنا، مسيو نافا Nava، يلس، بن يخلف، دحّو… لكن مثلي الأعلى كان حارس وداد تلمسان، الفرنسي فيرديي ٍVerdier.

أتذكر المعركة الكروية الكبيرة التي جمعت الوداد بغالية معسكر، التي يصعد فيها المنتصر نحو القسم الوطني الأول. يومها لم أجد اليد التي تجرني برفقتها داخل ملعب الأخوين زرقة. حاولت لكن في كل مرة كان الاعتذار هو الإجابة الوحيدة إلى أن جاء من يطردنا من محيط الملعب وتغلق الأبواب الحديدية نهائيا. اضطررت يومها مع بعض أصدقاء ملحقة بن زرجب، إلى أن نصعد على أسقف الملحقة القرميدية المطلة على الملعب، دون التفكير في مخاطر السقوط من أعالي البناية. كنا نرى نصف الملعب، ونعرف من صرخة الجمهور وضعية الكرة، في جهة الملعب المتخفية. ويوم سجل الوداد أول أهدافه ضد غالية معسكر، وارتمى اللاعبون في برك الماء التي خلفتها الأمطار، كدنا نسقط من أعالي السطح من شدة الفرح، لولا تماكسنا ببعضنا البعض.
سألت السيد نافا، مدربنا واستاذنا في الرياضة في الثانوية، عندما اقترح عليّ الالتحاق بفريق الوداد: وماذا عليَّ أن افعل؟ قال أنت محظوظ. لقد تم اختيارك لتكون حارس أصاغر الوداد، في أكبر فريق يمثل الولاية كلها. لكني أحتاج إلى موافقة والدك، وتقبل بعدها التنقل مع الفريق، كلما دعت الحاجة إلى ذلك. سألت ببراءة: ودراستي؟ التي كانت كل شيء بالنسبة لأمي، قال: سنراعي ذلك. ستحضر التدريبات في الملعب وتحضر كل مقابلات الوداد. كدت أصرخ: أوقّع بالعشرة. كنت في النظام الداخلي وكان عليّ انتظار العودة إلى البيت لأستشير أمي. عندما حكيت لأمي قصتي قالت: المهم دراستك. لكن أن تنجح كحارس أيضا، فهذا سيسعد والدك في قبره ويفرحه. في الصباح كانت في ثانوية ابن زرجب، تضع إبهامها، في المداد الأسود وتوقع، وتنظر إليّ بسعادة.


كنا نتدرب في ملعب الحوض الكبير le grand Bassin وفي ملعب الإخوة زرقة. كانت سعادتي كبيرة وما كنت خائفا منه لم يؤثر في مطلقا. كانت نتائج دروسي ممتازة. الطاقة التي كانت ترافقني لا أستطيع اليوم وصفها. دخلت في نظام متعب، ولكني كنت أحبه. أصبحت أراني فيرديي وأستعيد كلمات نافا: يمكن أن تعوض فيرديي، فهو متعاون تقني، وسيعود يوما إلى وطنه. نريد ابن البلد، لكن للوصول إلى هذه المراتب، يتطلب جهودا كبيرة، وصبرا أكبر. عليك أن تكبر بسرعة، ومن يدري، ستصبح حارس الفريق الوطني؟ ما معنى ذلك؟ أن تدافع على شيء أكبر من مدينة. تذكرت ما قالته لي أمي عن والدي: لم يكن والدك يدافع عن مدينة. قلت لنافا سأكون مثل والدي. أجاب: نعم مثل والدك مع اختلاف الحقب. نحن اليوم بلد مستقل لن تحتاج إلى حرب ولكن تحتاج إلى سلام مع النفس. أن تكون قويا ومخلصا ومحبا وحالما.

ليس الحلم ما كان ينقصني، فقد كنت في قمة الهيام. وبدأت أراني أجوب ملاعب الولايات، أنا الذي لم يعرف إلا قريته وأقرب مدينتين: تلمسان ومغنية. أسجل الانتصارات المختلفة. كنت أحلم دوما بالسفر بعيدا. والدي حكى لي، قبل استشهاده، وهو في فرنسا أن السفر يعلم التواضع أمام الحياة. نظن احيانان بسبب جهلنا، أننا مركز العالم، وفجأة نكتشف، عندما نرى مناطق أخرى، أننا لسنا الأفضل بالضرورة، ولا الأقل قيمة. وعدني بالسفر معه عندما أكبر قليلا. لكن يوم وصلنا خبر استشهاده، ماتت فكرة السفر في داخلي. رأيت يومها أمي تبكي في داخلها. لأول مرة أرى أمي تبكي بذلك الشكل. البكاء بلا دموع. لكن الألم كان يحتل كل ملامحها. تعلمت الصبر منها. كانت عيناها تتدفقان مثل شلالات لوريط (منطقة في حواف تلمسان، معروفة بشلالاتها الكثيرة ومياهها المتدفقة)، في داخلها.

عندما حكيت لنافا عن قصة والدي، أخذ يدي وبسطها على يده الدافئة: كلنا فقدنا عزيزا، ولهذا لا قوة إلا الصبر وتخطي الحزن. كلما لعبتَ مقابلة، ضع في رأسك أنك تدافع عن أجمل ما تركه لك والدك. الخسارة ليست قدرا نهائيا، ننحني ولا ننكسر. لا تنس أن كل عرقك وخوفك هو ميراثك في الرغبة في الانتصار.

لم تكن مقابلتي الأولى مع أصاغر الوداد موفقة. فقد تسببت في ضربة جزاء، إذ كنت عنيفا ضد مهاجم فريق أولاد ميمون (لاموريسيير) سابقا. خسرنا على أرضية ملعبنا بضربة جزاء. حزنت، وبكيت، وفكرت لحظتها في أن أغادر الفريق نهائيا. شعرت أن نافا خُدِع فيّ. لم أكن مؤهلا لشيء كان أكبر مني بكثير. أثناء التدريبات التي أعقبت الهزيمة، حضر حارس الوداد، فيرديي. حياني على استماتتي في المقابلة. قال وهو يحدثني: لا تحزن. يحدث لنا جميعا أن نخسر. خسران مقابلة صعب، لكنه ليس نهاية العالم. ضع في رأسك أن لك مقابلة العودة، ويمكن لزملائك اللاعبين أن يقلبوا كل شيء. أعطاني درسا في كيفية تفادي الخصم بلمس الكرة مع تفادي لمسه أو تعنيفه وهذا ممكن. كان يرتمي أمامي وينزع الكرة فقط من اللاعب ويسحب يده بسرعة لتفادي جيل اللاعبين بالسقوط والبحث عن ضربة جزاء. قضيت الصبيحة كلها برفقته، وهو يدربني بلباقة وجمال. في حصة أخرى، كان نافا يقذف الكرة وأنا أتابع حركاته بصفاء أكثر، وكان ذلك كله من أجل استعادة ثقتي في نفسي. عرفت يومها أن خسارة واحدة ليست نهاية العالم. في مقابلة العودة ضد أولاد ميمون، كانت الثقة قد ترسخت. كنت مستعدا للاستماتة بل للموت، لاستعادة ثقة نافا فيّ. سجلنا هدفنا المبكر الذي جعلنا متساويين. وفي ضربات الجزاء، كان عليَّ مراقبة حركة رجلي الخصم، واتجاه الكرة المحتمل، ثم الارتماء بالاتجاه الذي نظنه صحيحا، تماما كما وجهني فيرديي. أنقذت يومها ضربتي جزاء، وكان ذلك يعني انتصارنا وعودتنا إلى تلمسان بتأهل للدور الموالي في التصفيات الولائية. كانت فرحة نافا كبيرة: اليوم تأكدت من أنك ستكون حارسا كبيرا. خسارة واحدة لا تصنع قدرا أسود.

Your Page Title