أثير- الباحث سند بن حمد المحرزي
من سنن الله الشرعية والكونية التعارف والتبادل في الأحوال والخبرات والمجالات؛ فهذا عالم وذاك طبيب والآخر مهندس وذلك طيّار وهلمّ جرّا، وهذه النظرية خاضعة لكل الأزمان بالنسبة للفطرة البشرية وتلك المصطلحات العلمية هي حديثة معاصرة، وأما في الزمان المتقدِّم فالعلوم لم تكن متفرّعة وَمتشعّبة كزماننا هذا الذي تقدم فيه العلم وأخذت تسمّيه الناس (بالطفرة العلمية) فقد كانت أكثر العلوم في الماضي أي قبل النهضة الصناعية بعد القرون الوسطى محصورة في الفكر؛ من أدب وشعر وفنٍّ وعلوم الشريعة وفروعها وغيرها، لكن علم الشرع عميق ذات فروع كثيرة ولا يحصّلها العالم كلها ولا يحيط بها الدّارس لها فتجد الأول يستفيد من الآخر والآخر من الآخر وهكذا.
ونتحدث هنا عن الشيخ صالح بن وضّاح المنحي العماني من علماء القرن التاسع الهجري الذي خرج من عمان حاجّا لبيت الله الحرام فلم يكتف بالحج فقط بل تزوّد بالعلم النافع من علماء مكة فخرج منها بإجازة علمية في علم القراءات بمتن (الشاطبية) تكاد تكون الإجازة الأولى – بحسب اطلاعي- أو هي من أوائل الإجازات العمانية على أقل تقدير، ومتن الشاطبية هي قصيدة (حرز الأماني) وهي في علم القراءات وسميت بالشاطبية على اسم مؤلفها أبي القاسم بن فيرة بن خلف العيني الأندلسي الشافعي الضرير على يد الشيخ العالم شهاب الدين أحمد الكلاعي عالم في القراءات العشر من علماء اليمن الذي رحل إلى مكة وواصل القراءة على علماء (حرّان) بنجد والمدينة ومكة المكرمة وتوفي ودفن في مكة ٨٧٣ هجري بعد أن تفرّغ للتدريس في الحرم المكي، وتتلمذ عليه الكثير من رواد الحرمين؛ فقد قرأ عليه الشيخ صالح مستفيدا من فرصة وجوده في أرض الحرمين ووجود هذا العالم إلى أن أتمّ القراءة عليه بالقراءات السبع فأجازه الشيخ الكلاعي.
وهذا نص الإجازة (الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. بلغ الشيخ الفقيه الصالح صالح بن وضاح نفعه الله ونفع به قراءته لمتن الشاطبية، من أولها إلى هنا قراءة بحث وتحقيق لمعانيها وقد قرأ عليّ القرآن العظيم بروايات القراء السبع بأسانيد تذكر إن شاء الله تعالى في غير هذا المحل، وقد أجزت له أن يروي عني ما قرأ عليّ، وجميع ما يجوز لي وعني روايته بشرطه عند أهله. قال ذلك وكتبه العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن علي بن عمر بن أحمد بن أبي بكر بن سالم الكلاعي الحميري، الشهير بالشوائطي عفا الله عنه وكانت القراءة المذكورة في حرم الله تعالى بفناء بيته الحرام، أعاد الله علينا وعليه من بركات المكان والقراءة، وجعل ذلك خالصا لوجهه الكريم آمين، وكُتب يوم الثلاثاء، تاسع وعشرين شهر شوال سنة خمسين وثمانمئة. والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. نظر فيه العبد الفقير إلى رحمة القدير أقل عباد الله وأحوجهم إلى رحمته). ونستفيد من هذه التجربة ملامح كثيرة منها:
– التواصل الوثيق لعلماء عمان مع إخوانهم من العلماء في البلدان الأخرى
– تواضع العلماء رغم كون الشيخ صالح بن وضّاح من أكبر علماء عصره فما يزال يطلب العلم والفائدة والتحصيل العلمي إن وُجدت أسبابه وأربابه ولم يقل ويتصوّر بأنه عالم وكفى
-التآخي والتقارب والتوافق بين علماء المسلمين (إنما المؤمنون إخوة)
– اهتمام علماء عمان بعلم القراءات والعلوم القرآنية عامة منذ القدم
– عالم يشهد لعالم فالشيخ الكلاعي يصف الشيخ صالح (الشيخ الفقيه الصالح صالح..) وهذا يؤكد الاحترام والتقدير المتبادل بين العلماء
– ثراء وتنوّع تفاصيل التاريخ العماني وحفظه لتراثه فهذه الإجازة نص مهم يعود للقرن التاسع قبل ٦٠٠ عام من الآن