أثير- الروائي الأردني جلال برجس
هل لي كقارئ وكاتب أمام هذا التدفق الهائل للتكنولوجيا، وتكنولوجيا الرقمنة، وبخاصة ما يتعلق بالكتب، أن أرفض ما يستجد على حياتنا؟ وهل استطاع من سبقونا أن يقفوا بوجه الراديو، والتلفزيون، وكل ما تفتق عن ذهن الإنسان؟ تلك الأدوات التي مثلما أنارت الدرب أمامه، وسهلت، ساهمت أيضًا بتفتيت بنية العائلة التي تقوم عليها الحياة بمفهومها الجماعي لا الفردي. لا شك أن التكنولوجيا تسهل سبل حياتنا، لكنها من جهة أخرى تجعلها أقل إنسانية، مع ذلك عليّ أن أستقبل هذه الاستحداثات بوعي من يمسك عصاه من المنتصف، وفي الوقت نفسه أجدني أنتمي إلى أولئك الذين يدفعون بنا للعودة إلى الطبيعة مثل (ميرلو بونتي).
حين أتأمل علاقتي بالكتاب الورقي، وبتطورات حياتنا، وما سيأتي منها، يصيبني خوف من نوع غريب يرتبط بمصيري الإنساني لكننا أمام واقع لا هرب منه. في هذه الأيام تعقد مؤتمرات حول علاقة الكتاب الورقي بالإلكتروني، وتقوم على تساؤل متكرر مفاده: متى سيصمد القديم قبالة الحديث الذي بالطبع له جذوره؛ حيث تذكر المصادر أن الأمريكي (مايكل ستيرن هارت) هو صاحب الريادة في تدشين أول كتاب إلكتروني، وذلك عندما كتب عن الاستقلال الأمريكي في جهاز كمبيوتر في 4 يوليو 1971، إذ اعتبرت تلك الخطوة طريقًا لتأسيسه مشروع (غوتنبرغ)، الذي يعد أقدم وأكبر مكتبة رقمية ظهرت قبل تأسس الشبكة العنقودية. وانطلاقًا من تلك السنة، وتلك الخطوة نحو رقمنة الورقي، ظهر الكتاب الإلكتروني في بداية الثمانينيات من القرن الفائت وتحديدًا عام 1982م بشكل يشبه الآلة الحاسبة التي يمكن أن توضع في الجيب. وفى عام 1983 تمكن مركز الحاسوب عن طريق الاتصال المباشر بتوفير ما لدى دائرة المعارف الأكاديمية الأمريكية بأكملها في الحاسوب الإلكتروني، وصار بالإمكان البحث فيها والحصول على المعلومة المطلوبة من بين الـ 48500، مادة متوفرة. وفي عام 2000 أخذ انتشار الكتاب الإلكتروني بالصعود إلى أوجه عالميًا. أما في هذه المرحلة، فقد تطورت التكنولوجيا بشكل مذهل، ومنها الذكاء الاصطناعي الذي بات مؤهلًا -بحسب من يروجون له-للقيام بأدوار هي في الأصل بشرية، مثل ما أعلن عنه قبل مدة من أن (روبوت) سيكون قادرًا على كتابة رواية بعد تزويده ببيانات أساسية.
أما الكتاب الإلكتروني فهو جزء من هذه العاصفة التكنولوجية؛ إذ بات في هذه الأيام بصيغه المتعددة واقعًا لا يمكن تجاهله، وأصبح هناك من يحمله إما في هاتفه النقال، أو جهازه اللوحي، أو في حاسوبه المتنقل، بل أن هناك من القراء على الصعيد العالمي من اعتمدوه كخيار وحيد للقراءة. في العالم العربي تبدو آثار العاصفة التكنولوجية غير متوازية بمثيلتها في الغرب؛ إذ لم يصل الكتاب الإلكتروني إلى ذروة إثبات وجوده كما هو الحال عالميًا، وما تزال العلاقة بالكتاب الورقي تأتي من جهة (النوستاليجا) وتلك الحميمية التي لا توفرها الشاشات الإلكترونية. لكن ارتفاع أسعار الورق كنتيجة للتبدلات الاقتصادية العالمية، أخذت تدفع أكثر بخيارات رقمنة الكتب أكثر من ذي قبل، وهناك من بات يخشى على تلاشي النوع الورقي منها.
إن التقييم الواقعي لما يحدث عالميًا للكتاب الورقي، وما ينتج عن جهود رقمنة سبل الحياة لا بد أن تأخذنا إلى محاولة الخروج من أزمة مثل هذه، وإن الرفض القاطع للرقمنة-وهو مستحيل بالطبع-خيار خاطئ؛ فهو طوفان يصعب تجاهله، والتسليم الكامل به أيضًا أكثر خطأ وخطورة. إن الأمثل في هذا الشأن كما أسلفت-وهو برأيي ما سيحدث-هو أن تكون الحصة مناصفة بين الورقي والإلكتروني، بين التقني والطبيعي، بين ما هو فطري، وما هو مستحدث. كيف للعالم أن يسلم ذخيرته الثقافية لعالم افتراضي يمكن أن يتلاشى بين ليلة وضحاها؟ وكيف للإنسان أن يبقى رهينة لشاشات سرقت نصف بصره، وأضافت له كثيرًا من الأعطاب النفسية، وساهمت بتهشيم بنية العائلة، ورسخت الفردية، مقابل روح الجماعة.
هناك من يرفض الكتاب الورقي حتى من جيل القراء الشباب، بل أن هذا الطيف الرافض موجود في الغرب، تلك الدول صاحبة السبق في التكنولوجيا ونتائجها. إن المسألة إنسانية أكثر من كونها وقوف بوجه التكنولوجيا، ومرتبطة بما تلقيه هذه التطورات التقنية على النفس البشرية من ظلال سلبية؛ إذ يكمن الأمر في تحويل سبل حياة الإنسان، ومدخراته مثل الكتب، إلى مسائل افتراضية تُرى ولا تلمس، ولا يمكن شمها، أو الإحساس بها، وكأنه تهديد غير مباشر لحواسه. كيف لي على الصعيد الشخصي أن أتنازل عن رائحة الكتاب وهو يخرج طازجًا من المطبعة، وملمس صفحاته وأنا أقلبها، وطعم أوراقه وأنا أستعين بريقي لأتمكن من تجاوز الصفحة إلى الأخرى، وإحساسي بالكتاب كشيء يضم عالمًا من زاوية الكاتب؛ إن الأمر بالفعل له علاقة بالحواس. لا نملك أن نتجاهل التطورات التي يشهدها العالم، لكننا نملك أن نحافظ على إنسانيتنا.