أثير- تاريخ عمان
إعداد: د. محمد بن حمد العريمي
عرفت سلطنة عمان منذ مطلع القرن العشرين مجموعة من الإصلاحات الإدارية والاقتصادية المتمثلة في إقامة العديد من المشروعات الحديثة، كمشروع مصنع الثلج، وكهرباء مسقط، ومستشفى مسقط الخيري، والجمارك السلطانية، وشق طريق مسقط -مطرح، وغيرها من المشروعات. كما عرفت المؤسسات السياسية والقضائية والتعليمية الحديثة كإنشاء مجلس الوزراء، وافتتاح المدرسة السلطانية الأولى، وظهور المحاكم الحديثة.
وتعد المحكمة العدلية من ضمن المشاريع الحديثة التي استهدفت تطوير النظام الإداري في السلطنة وفق الأسس الحديثة، حيث ظلت حتى بداية الأربعينات عندما تم حلّها والعودة إلى النظام القضائي السابق والمتمثل في النظام الشرعي.
“أثير” تقترب في هذا التقرير من هذه المحكمة وكواليس نشأتها، وأبرز الشخصيات التي تولت إدارتها، والمراحل التي مرّت بها.
أسباب التأسيس
بناءً على مشروع الرائد هاورث Haworth الوكيل السياسي في مسقط عام 1918م الذي ورد ضمن تقرير الرائد ميرفي الوكيل البريطاني في مسقط، الذي يعود إلى عام 1927، والمرسل إلى المعتمد السياسي في بوشهر، والمتضمن مجموعة من الإجراءات التي تضمن تحسين الخدمات في حكومة مسقط، ومن بينها إقامة وتنظيم محاكم تجارية ومدنية في الدولة لتحسين النظام القضائي، فقد شرعت حكومة مسقط في تأسيس محكمة قانونية – نظامية في مسقط عام 1919م، ترأسها السيد نادر بن تيمور.
كما يذكر الباحث لطفي الداهش أن السلطان أوجد ” المحكمة العدلية ” التي رأسها قاضٍ واحد ينظر في كافة القضايا التي تحال إليه، أو التي تقدم إليه عبر الوكيل السياسي بشأن القضايا التي يرفعها الرعايا البريطانيون ضد العمانيين، ولمعرفة مجريات الأمور كان يجب على مترجم الوكيل السياسي الوجود في المحكمة لترجمة ما يدور فيها من مداولات، وأما بالنسبة للقضايا التي يرفعها العمانيون ضد البريطانيين فكان ينظر فيها في محكمة القنصلية البريطانية، أما القضايا التجارية فكان ينظر فيها في المحكمة التجارية، حيث خصص فيها محل لجلوس بعضٍ من التجّار لاستشارتهم في القضايا المرفوعة وخاصةً المعقّدة منها.
ويشير الباحث لطفي الداهش في دراسته ” التطورات الداخلية في سلطنة عمان 1920 – 1970″ إلى أنه ومع وصول السلطان سعيد بن تيمور إلى السلطة، أسّس إدارة للعدل وعيّن عليها سكرتيرًا يساعده اثنان أو ثلاثة من الموظفين وألغى منصب الشؤون الدينية، وأنشأ محكمتين: واحدة مدنية والأخرى تجارية، وقد أعطت للمواطنين حرية تقديم الدعاوى والشكاوى إلى المحاكم العدلية أو الشرعية.
أبرز الشخصيات التي ترأست المحكمة:
توالى على رئاسة المحكمة عدد من الشخصيات البارزة، وهم:
السيد نادر بن فيصل
يعد السيد نادر بن فيصل هو أول رئيس للمحكمة العدلية بعد إنشائها في عام 1919م بناء على الإصلاحات القضائية التي ارتبطت بمشروع الرائد هاوارث، ويذكر الأستاذ محمد علي بوذينه في مخطوطة له أنه “ في سنة 1337 حادي شعبان أنشأ جلالة السلطان المحاكم المنتظمة فكان السيّد نادر هو الرئيس والناظر“.
وقد ظل السيد نادر رئيسًا للمحكمة لفترة قصيرة، حيث تم تشكيل أول مجلس للوزراء في أكتوبر عام 1920م وأصبح السيد نادر أول رئيس له، وتحولت مهمة الإشراف على المحكمة العدلية إلى الشيخ الزبير بن علي الذي كان يعملمستشارًا في المحكمة عند إنشائها.
الشيخ الزبير بن علي
كان للشيخ الزبير بن علي تاريخ حافل في العمل في المجال القضائي والعدلي، فقد عمل مستشارًا في المحكمة العدلية عند افتتاحها عام 1337هـ الموافق 1919م، وكان مساعدًا لإدارة شؤون المحكمة التي ترأسها السيد نادر.
وعندما شكّل السلطان تيمور بن فيصل مجلس الوزراء في أكتوبر عام 1920 برئاسة السيد نادر أصبح الشيخ الزبير بن علي وزيرًا للعدلية، وعندما أنشأ السلطان سعيد بن تيمور المجلس النيابي في 12 يونيو 1932 أثناء سفره إلى الهند كان الشيخ الزبير بن علي بحسب ما ورد في قرار السلطان، رئيسًا للمحكمة العدلية، ويبدو أنه كان رئيسًا لها قبل ذلك.
إسماعيل بن خليل الرصاصي
أشار الوالي إسماعيل بن خليل الرصاصي إلى أن السلطان سعيد بن تيمور كان قد فاتحه في 8 أكتوبر 1935 وهم في طريق عودتهم من رحلة الهند إلى مسقط بأمر ترشيحه لتولي رئاسة المحكمة العدلية بمسقط.
وفي 15 فبراير 1937 عند رجوع إسماعيل الرصاصي من ظفار إلى مسقط بعد أن قضى هناك سنة وخمسة أشهر بصحبة السلطان سعيد بن تيمور، كان أمر توليه رئاسة المحكمة العدلية خلفًا للشيخ الزبير بن علي الرئيس السابق لها قد صدر، وطلب السلطان منه أن يجدّد بناءها، ويجدّد قوانينها وترتيباتها، كما يشير إلى ذلك في موضعٍ آخر من مذكراته.
وفي مقالٍ بعنوان ” عظمة سلطان مسقط .. شيء عنه ووزير عدليته ” منشور بجريدة (الشباب) لصاحبها محمد بن علي الطاهر، والتي كانت تصدر من القاهرة، في العدد رقم (46) الصادر بتاريخ 31 مارس 1937م، يشير الكاتب أحمد بن محمد المحضار إلى عودة السلطان سعيد بن تيمور إلى مسقط بعد الغياب الطويل في ظفار، وذلك في يوم 3 ذي الحجة سنة 1355 هـ ( الموافق 14 فبراير 1937)، وأنه اختار لوزارة العدلية الأستاذ إسماعيل الرصاصي، وأن الاختيار ” قد وقع في محله ووضع في أهله لأن الأستاذ من المعروفين لدى الخاص والعام بالنزاهة ودماثة الأخلاق وحسن السيرة المرضية في الأحكام، لا تأخذه في الله لومة لائم “.
كما نشرت جريدة (الشباب) في عددها الصادر يوم الأربعاء 2 يونيو 1937 خبرًا عن إنشاء بناء خاص بالمحكمتين العدلية والشرعية، وتجديد مكاتب وسجلات المحكمة العدلية على أحدث ترتيب.
جريدة الشباب-الأربعاء 2 يونيو 1937
إسماعيل الرصاصي في رئاسة المحكمة العدلية. أرشيف صور إياد الرصاصي
ويشير الكاتب الشيخ حمود بن سالم السيابي في كتابه ” بروة استدعاء لمطرح ” إلى أن السلطان سعيد بن تيموروضع إسماعيل الرصاصي على رأس ” المحكمة العدلية ” كإداري يجيد الإنجليزية لأن المحاكم تستقبل قضايا أطرافها من الأجانب، فتوسّم فيه القدرة على أن يحقق نفس النجاحات التربوية“.
كما يشير تقرير استخباراتي بريطاني يتناول الفترة من 1-15 يناير 1939 منشور بمكتبة قطر الرقمية، ضمن ملف بعنوان “ مسقط: يوميّات: أخبار وملخصات استخباراتية “، تحت رقم استدعاء (IOR/L/PS/12/2972) إلى أن إسماعيل بن خليل الرصاصي رئيس المحكمة العدلية قد تم تعيينه واليًا على مطرح، بالإضافة إلى رئاسته للمحكمة.
ويذكر إسماعيل الرصاصي أنه في 14 رجب 1355 هـ الموافق 30 سبتمبر 1936م تم البناء والترتيب للمحكمة العدلية، وقد افتتحها السيد شهاب بن فيصل في احتفالٍ كبير، وقد سُرّ الكثيرون بالقوانين الجديدة المرتبطة بالمحكمة.
إلغاء المحكمة العدلية
وقد ظل إسماعيل بن خليل الرصاصي رئيسًا للمحكمة العدلية حتى التاسع من أغسطس من عام 1939، عندما تم إلغاء المحكمة العدلية، وصار هناك توحيد للمحاكم في إطار الجانب الشرعي.
ويذكر الباحث لطفي الداهش أنه في عام 1939م تم إلغاء إدارة العدل والمحكمتين المدنية والتجارية، وضمّت أعمال تلك الإدارة إلى والي مطرح الذي لم تكن له أية سلطة على أعمال القضاء في المجال الوظيفي.
ويبرر الداهش ذلك القرار بأنه كان جزءًا من صراع السلطان سعيد بن تيمور مع مؤسسة الإمامة ومحاولة كسب نخبة مهمة من العلماء في إدارة البلاد ليظهر مدى تمسكه بتقاليد الإمامة في مسألة القضاء، خصوصًا بعد قيامه بتعيين العديد من قضاة الإمامة في تسيير مهمة القضاء في سلطنة مسقط وعمان.
ويعلّق على ذلك: ” إن عملية تطعيم القضاء بنخبة مختصة في القضاء الشرعي ساعدت على تنظيم القضاء وحدّت جزئيًا من سلطة السلطان، حيث أصبح القاضي مرجع أمره إلى رئيس الولاة، أما الاستئناف فمرجعه إلى مسقط “.
ويؤكد الكاتب الشيخ حمود بن سالم السيابي ما ذهب إليه لطفي الداهش بقوله: ” أدرك سيدنا (السلطان) أن طبيعة عمان المنقسمة بين إمامة وسلطنة يجب ألا يشعر رعايا شطرها السلطاني بأن العدالة فيه منقوصة لأنها لا تحتكم في فض النزاعات إلى الشرع الشريف فألغى جلالة السلطان سعيد المحاكم العدلية وأعاد التقاضي لسابق عهده عبر المحاكم الشرعية، وبدأ مجددًا يستعين بقضاة شرعيين من الذين يصنّفون بأنهم من رعايا دولة الإمامة”.
ويؤكد الكاتب الشيخ حمود بن سالم السيابي ما ذهب إليه لطفي الداهش بقوله:
” أدرك سيدنا (السلطان) أن طبيعة عمان المنقسمة بين إمامة وسلطنة يجب ألا يشعر رعايا شطرها السلطاني بأن العدالة فيه منقوصة لأنها لا تحتكم في فض النزاعات إلى الشرع الشريف فألغى جلالة السلطان سعيد المحاكم العدلية وأعاد التقاضي لسابق عهده عبر المحاكم الشرعية، وبدأ مجددًا يستعين بقضاة شرعيين من الذين يصنّفون بأنهم من رعايا دولة الإمامة”
كما أوردت جريدة “الفلق” التي كانت تصدر من زنجبار، في عددها الصادر بتاريخ 28 أكتوبر 1939م خبر إلغاء المحكمة العدلية بأمر من قبل جلالة السلطان سعيد بن تيمور، وأن جلالته قرّر بأن تكون الأحكام بمقتضى الكتاب والسنة في المحاكم الشرعية.
المراجع
– بوذينة، محمد بن علي. مدونة مخطوطة غير منشورة.
– الداهش، لطفي. التطورات السياسية في سلطنة عمان 1920 – 1970، أطروحة دكتوراه، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة تونس الأولى، تونس، 2010.
– السيابي، حمود بن سالم. بروة استدعاء لمطرح، ط1، بيت الغشام للصحافة والنشر، مسقط، سلطنة عمان، 2020.
– العريمي، محمد. الوالي إسماعيل، دار باز، مسقط، سلطنة عمان، 2022.
– العريمي، محمد بن حمد. شخصية عمانية بارزة: تعرف على أول رئيس مجلس وزراء في السلطنة، موقع أثير ، السبت 25 سبتمبر 2021.
– مكتبة قطر الرقمية. عدّة تقارير تتناول الوضع في عمان في النصف الأول من القرن العشرين، ومطلع القرن العشرين، https://www.qdl.qa
– النبهاني، سالم بن حمد. عمان في عهد السلطان تيمور بن فيصل، بيت الغشام للصحافة والنشر والترجمة والإعلان، مسقط، 2015م
– أعداد من صحف الشورى والشباب والفلق.