فضاءات

الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب لـ “أثير”: الرِّوَائِي سْتِيغْ لاَرْسُنْ يَفْضَحُ يُوتُوبِيَا الشَّمَال الزَّائِفَة

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج

ليس هنا مجال الجدل في مسألة الدفاع عن النفس، والاحتياط من كل المصاعب، في عالم يزداد تعقيدا وشراسة كل يوم. طبيعي أنه من حق أي شعب يتعرض للمخاطر أن يحمي نفسه، من كل ما يهدد كيانه ووجوده. لكن أيضا من واجب الشعوب، ما دامت تنتمي إلى فضاء إنساني، أن تتفهم الشعوب الأخرى وحقها في الحياة. قوانين الهجرة التي أصدرتها في السنوات الأخيرة دول الشمال الأوروبي، بالخصوص الدانمارك، تثير أكثر من سؤال حول مرامي هذه القوانين الجديدة، كيف لدولة محكومة بضوابط أممية، أن تسرق مال البؤساء المهجّرين الذين تركوا كل شيء وراءهم، وارتحلوا صوب المجهول، بعد أن باعوا ما استطاعوا بيعه من ممتلكاتهم، بحثا عن حياة فيها حد أدنى من الكرامة واستجابة لغريزة حب البقاء الطبيعية، هربا من مأساة قاسية، لأوروبا جزء كبير من المسؤولية فيها. وإلا من حطم البنى والمؤسسات، حتى ولو كانت هشة، في العديد من البلدان العربية؟ من السهل أن نختزل ذلك كله في الدكتاتورية التي تتحمل القسط الأكبر في خراب بلدانها، لكن مسؤولية أوروبا لا يمكن الاستهانة بها في وضع دولي هي سيدته وأمريكا. كم أن ذاكرة البشرية محدودة ولا تلتفت إلى الوراء، ولا ترى نفسها في مرايا الذاكرة وهي تقدم على تفقير الفقير، وتبئيس البائس أصلا. مع أن فكرة تجريد المهجّرين من أموالهم، على امتداد واسع، ليست جديدة. فهي تذكر بالضبط بالحالة اليهودية في الحرب العالمية الثانية. في عزّ الهولوكست، وقبله بقليل، تم تجريد الناس من كل ما كانوا يملكونه، بحجج واهية لا شيء يبررها إلا النهب المنظم بشكل واسع. نفس التيارات الفاشية والعنصرية، أو القريبة منها، أو المتواطئة معها أو الصامتة عليها مقابل مكاسب انتخابية ومصالح ضيقة لا تهم فيها قيمة الإنسان مطلقا. المصيبة أن هذا الجبن أعطى كل المبررات للمجتمع الأوروبي وقتها بأن يجد ضالته في تيارات اليمين المتطرف والعنصري لدرجة، أن نتساءل أين كان الضمير الأوروبي والإنساني؟ هل يعقل أن المجتمعات الأوروبية تحولت إلى مجتمعات عنصرية في أغلبها، وبشكل كلي؟ يمكننا أن نتحدث كثيرا عن الجريمة التي شرّعت سرقة اليهودي وتدميره وقتله، لكن من يقرأ التاريخ البشري ويحاول أن يستوعبه لا يفاجأ مطلقا. يكفي أن نتأمل تاريخ ومآلات النازية، وقوة غطرستها والظلم الاجتماعي الذي تأسست عليه، وإخفاق الطبقات السياسية الديمقراطية في إيجاد الحلول، لنعرف كيف منحت السلطة على طبق من ذهب، لهذه التيارات التي تحولت فجأة إلى بدائل وهمية لا تجلب في النهاية إلا الدمار والحروب والخيبات، والتطرف، والمزيد من الحقد على الأجنبي الذي جعلت منه عدوها الذي يغطي على إخفاقها الكلي. ومثلما وجدت النازية ضالتها في اليهودي التائه والخطير، وجدت أوروبا اليوم، المأزومة اقتصاديا وقيميا، في العربي الضائع والمتوحش والإرهابي، وسيلتها لاستعادة مشاريعها الاستعمارية القديمة. قد تبدو هذه الصورة اختزالية، لكنها حقيقية ولا تمس دولة الدنمرك وحدها، لكنها تمس أوروبا الشمالية قاطبة. سن القوانين المتشددة في أوروبا الشمالية، في الدنمرك والسويد وفنلندا لن يحل أي مشكلة. والتخويف من المهجّرين الطالبين للجوء السياسي لا يعمل إلا على توسيع رياح العنصرية القوية التي مست كل شيء، حتى أجهزة الدولة التي كان عليها أن تجد مبررات دخولها في اللعبة نفسها، والاستجابة للحسابات الانتخابية التي سمحت في النهاية لليمين المتطرف بأن يصعد بقوة في مجمل دول أوروبا، فارضا نفسه على المشهد السياسي والاجتماعي. لا أعرف إذا ما كان المراقبون يرون في هذا التحول شبها لصعود النازية في كل مناحي حياة فترة الثلاثينيات، من عجز ثقافي وفكري وعدم القدرة على إنتاج المعرفة القادرة ليس فقط على تفسير العالم الجديد، ولكن أيضا السير به إلى الأمام، ومن إخفاق في إنتاج البدائل لمواجهة حقيقية للأزمة البنيوية الرأسمالية، ومن مخاطر الأزمة الاقتصادية التي تعقدت أكثر في السنوات الأخيرة على الرغم من الوعود وتفشي الظلم والبطالة والخوف من مستقبل أصبح مرهونا بالخطابات الجاهزة، ومن توجه سهل وجاهز نحو الحلول العسكرية لمواجهة المستجدات الدولية، وتصويب أصبع الاتهام نحو الغريب الأقل حماية، والأكثر هشاشة بوصفه سبب الأزمات التي وضعت هذه الدول في مخاطر الإرهاب والانهيار. هذا لا يعفي مطلقا العربي من مسؤولياته الثقيلة. بدل الانتساب إلى العصر والبحث عن وسائل التضامن، تم تحريك الأمراض القديمة بوضعها وسائل قياسية لتجاوز معضلات الحاضر ومخاطره. لهذا بدأت تضمحل الصورة الجاهزة عن أوروبا الشمالية التي كانت تبدو جنة العدالة والإنسانية، والتضامن. وبدأت تفقد نموذجها، وتسير بسرعة مجنونة، في ركب أوروبا، لتصبح في عمق أفكار اليمين المتطرف بكل عزلته وأفكاره التي تضع الأجنبي على رأس أجنداتها. وهذا في العمق أيضا، إعلان حقيقي عن فشل التيارات الديمقراطية التي كانت قطبا للتفكير والحلول ولم تعد اليوم كذلك. هذا الخليط من التحولات المستغرب اليوم، سبق أن أناط اللثام عنه بجراءة عالية وجدارة، الكاتب والصحفي السويدي الكبير، المعادي للتطرف اليميني، ستيغ لارسن، عندما كتب رواية الكبيرة والاستباقية، ملينيوم (2004- 2008) بأجزائها الثلاثة: الرجال الذين لم يكونوا يحبون النساء، الطفلة التي كانت تحلم بالبنزين وعود كبريت، والملكة في قصر التيارات الهوائية، التي ترجمت إلى ثلاثين لغة، وسجلت أعلى المبيعات في أوروبا. في السويد وحدها بيع منها أكثر من ثلاثة ملايين نسخة. مجموع المبيعات إلى اليوم بلغ 80 مليون نسخة، قبل أن يضيف لها مؤخرا (2015) جزءا رابعا، بعد وفاة ستيغ بأزمة قلبية حرمته من رؤية هذه النجاح منقطع النظير لثلاثيته، الروائي السويدي David Lagercrantz دافيد لاغيركرانتز تحت عنوان: الشيء الذي لا يقتلني. جعلت من الرواية نصا استباقيا خاض حربا ضروسا ضد اليمين المتغطرس وضد التاريخ المطمور، وفضح الآليات التي ولدت وحمت التيارات النازية التي بدت أوروبا الشمالية بعيدة عنها في الظاهر، وإفرازاتها اليمينية المتطرفة. فقد بينت ثلاثيته تورط الدولة في أوروبا الشمالية، في أعالي رموزها، في أمراض التطرف والعنصرية. لهذا أنشأ ستيغ المناضل والصحفي، ولاحقا الروائي، مجلة إكسبو التي حولها إلى منبر مضاد للفاشية والعنصرية التي بدأت تنخر المجتمع السويدي بقوة من الداخل، مما تسبب له في تهديدات كثيرة بالموت، لكنه لم يتوقف، فذهب نحو فضاءات التخييل الحرة التي منحته فسحة كبيرة لإعادة النظر في اليوتوبيات الأوروبية الشمالية الزائفة.

إن فكرة، شمال أوروبا يحمل نفس فيروسات الغرب الرأسمالي، الذي بنى جزءا مهما من رخائه على تفقير الآخرين، التي اشتغل عليها ستيغ لارسن، لم تنشأ من الفراغ أو من ردة فعل بسيطة، ولكن من عمق مجتمع يعرفه الكاتب جيدا. فقد عاش ستيغ لارسن في عمق التحولات التي عرت الخطاب الاجتماعي التضامني والإنساني نهائيا لتظهر لنا أوروبا الشمالية العنصرية في أسوأ صورها، والخوف من الآخر والتطرف، وحضور الأحزاب اليمينية كمنقذ من خطر أجنبي عربي أو إسلامي أو إفريقي داهم، الفساد الذي وصل إلى أعلى درجات السلم. ثلاثية ميلينيوم بهذا المعنى لم تكن إلا تعبيرا أدبيا حرا وحيا عن هذه اللوحة المخفية. من خلال شخصيتي ميكايل بلومكفيست، صحفي التحقيقات، ومساعدته ليزبث سالندر، كشف ستيغ لارسن عن عمق المجتمع الذي لا يختلف في النهاية عن أي مجتمع بني على الجشع والمصلحة الخاصة الضيقة في سياق رأسمالية متوحشة لا سلطان فيها إلا للقوة والغطرسة وهيمنة المال الفاسد الذي مس كل الأجهزة بما في ذلك أجهزة الدولة الأمنية، ورمى، ولو مؤقتا، بالمجتمع السويدي ومجمع أوروبا الشمالية في أحضان اليمين المتطرف والجريمة الموصوفة، الذي لا تنجو منه حتى مساعدة ميكيل بلومكفيست التي تتهم بالتورط في جريمة، لم ترتكبها، فتسخر لها كل جهودها للكشف عنها وعن خيوط اللعبة الأمنية التي وضعتها داخل تلك الدائرة. استجاب ستيغ لارسن لشيء كان يعرفه جيدا، وهو ما أعطى مصداقية كبيرة لنصه دون أن يحوله إلى تاريخ. فقد أظهر عداء واضحا ضد العنصرية والفاشية واليمين المتطرف، ميدانيا، قبل أن يكتب ملينيوم. في 1991، وفي ظل صعود التطرف والتواطؤ الرسمي التحتي، ألف كتابا نقديا سماه: اليمين المتطرف، بعده بقليل كتب: الديمقواطيون السويديون والحركة الوطنية. كما أعطى محاضرات كثيرة في أمكنة متعددة، منها سكونتلاند يارد، المؤسسة الأمنية البريطانية وغيرها. الأجزاء الثلاثة من ملينيوم فضحت هذه الآلية الداخلية التي عرفها عن قرب. في الجزء الأول، الرجال الذين لم يكونوا يحبون النساء، Män som hatar kvinnor(2005) يبدأ بفكرة غياب هارييت، حفيدة الصناعي الكبير هنريك فانجر، منذ أكثر من أربعين سنة. يتوجه شكه الكبير نحو أحد أعضاء العائلة، بسبب مصالح غامضة، ويريد أن يكشف عن سر ذلك. يقنع بلومكفيست بالتحقيق في احتمال جريمة اغتيال هارييت. من خلال عمله يلتقي المحقق بشابة حيوية ليزبث سلاندر، أو سالي، هي صورة عن المجتمع الاسكندينافي والأوروبي اليوم، تتأرجح بين عقلية البانك والعصيان ضد كل القوانين القامعة لحريتها، فوق هذا كله فهي مثلية مزدوجة، وهاكر غارق في تصيد المعلومات الحاسوبية، واختراق الحسابات الأكثر سرية. لا شيء يهمها في حياتها إلا المعلومة الافتراضية التي تخفي وراءها أخطر الحقائق. تساعده بخبرتها على الكشف عن خيوط الجريمة. تتواصل عمليات البحث في الجزء الثاني: الطفلة التي كانت تحلم بالبنزين وعود كبريت Flickan som lekte med elden (2006) والتحقيق في شبكة الدعارة، لكن الأجهزة المتواطئة تقود إلى مخاطر أكبر لتحويل مجرى البحث، فتتهم ليزبث بجريمة مزدوجة عنيفة في ستوكهولم ، ثم بجريمة ثالثة. تبدأ الشرطة في مطاردتها. بينما تصر ليزبث، برفقة صديقها الصحفي الذي يؤمن ببراءتها وصديقها دراغان أرمنسكي، على كشف الغلاف المنافق للمجتمع السويدي. من كان إذن وراء جريمة القتل الحقيقية، ولمصلحة من يتم إخفاؤها؟ في الجزء الأخير من الثلاثية: الملكة في قصر التيارات الهوائية , Luftslottet som sprängdes(2007) قبل أن يضيف لها الروائي السويدي، دافيد لغيركرانتر جزءا رابعا، توضع ليزبث داخل الحجز الأمني في المستشفى، بينما يتفرغ صديقها ميكائل بلومكفيست للكشف من الأجهزة الأمنية النافذة في الدولة، للبحث عمن كان يريد رأس ليزبث ولأية مصلحة؟ في الجزء الرابع المضاف: الشيء الذي لا يقتلني، تتواصل عمليات البحث والكشف والتعرية للمجتمع الحالي. نجد نفس عناصر الرواية البوليسية الاجتماعية السابقة، بالإضافة إلى شخصية جديدة تصبح أكثر فاعلية في هذا الجزء، فيحدث لقاء بين كاميليا بأختها ليزبث سلاندر. كان اللقاء حادا لأن الكراهية التي بين الأختين بلغت درجة عليا من القسوة والرفض. لكن الخاصية الأهم هي المواصلة في الكشف عن عمق مخاطر الفساد والتطرف والتوحش الرأسمالي داخل جهاز الدولة نفسه. ستيغ لارسن يؤكد بثلاثيته والجزء المضاف لها، لا مجتمع خارج هذه الأذرع الأخطبوطية الخانقة التي تريد احتكار كل شيء وتوجه المجتمع وفق ما يضمن مصلحتها السياسية والمالية أيضا. فالأدب يستبق دوما الحسابات السياسوية التي ترهن الحقيقة لمصالح ضيقة. هناك حالة استشراف واضحة في رسم مجتمع آخر كان يرتسم في الأفق قبل سنوات، غير المجتمع التي نعرفه، الذي جعل منه أولف بالمي الذي كان رئيس وزراء، ورئيسا للحزب الاجتماعي الديمقراطي، الذي اغتيل في 1986، مجتمعا إنسانيا متضامنا مع من هم في أشد الحاجة لذلك. ونسبت الجريمة رسميا إلى مختل عقليا. قبل أن تعقبها عدة احتمالات منها تورط الموساد بسبب موقف أولف بالمي من القضية الفلسطينية، الواضح والمتضامن والناقد لغطرسة الاحتلال الإسرائيلي. ومنها أيضا احتمال أجهزة إفريقيا الجنوبية بسبب موقفه وموقف بلاده من سياسة الأبارتيد العنصرية. لكن الاحتمال الأقرب إلى المنطق الذي يتواءم مع ثلاثية ستيغ لارسن، هو يد اليمين المتطرف المتغلغل في شرطة ستوكهولم من خلال رابطة البيزبول Ligue de baseball قبل أن يتم حلها رسميا في 1983 لمنعها من التحول إلى سلطة موازية، داخل السلطة. بينت الحقائق التي تلت، وحقائق اليوم من خلال تمظهرات أوروبا الشمالية اجتماعيا وسياسيا، أن ما حذرت منه ثلاثية ستيغ لارسن، يتجه المجتمع السويدي نحوه بخطى حثيثة، بحيث أصبحت أمراضا مثل العنصرية والتطرف والخوف من الأجنبي أو المختلف، هي المقياس الأساسي في التعامل مع الآخر القادم من سوريا أو من العراق أو من كل أماكن الحروب. فالقرارات الخطيرة، المتخذة ضد المهجرين بقوانين مجحفة، لم تأت من الفراغ ولكن من تحولات غير مرئية حدثت في الجسد الشمالي عبر سنوات كثيرة، بمنأى عن الكشف عنها وعن آلياتها قبل أن تضعها رواية الثلاثية في السياق الأدبي، أي في مدار المعرفة العامة والكشف المعلن.

ما كان يخشاه ستيغ لارسن وهو ينجز ثلاثية ملينيوم، من عنصرية وتطرف وفوبيا الأجنبي، التي رسخها اليمين المتطرف، في ظل أزمات اقتصادية غير مسبوقة، أثبتت السنوات التي تلت منجزه الروائي صحة ما كان مجرد افتراضات. لقد كانت ملينيوم استباقيا أدبيا واجتماعيا بامتياز. نكاد لا نصدق ما يحدث اليوم في أوروبا الشمالية من تغيرات فرضتها شروط اليمين المتطرف الصاعد وتواطؤات الساسة، على المستوى العالي في هرم السلطة، للحفاظ على بقائهم في دوائر الحكم. فقد كشفت لنا ملينيوم، اللوحة الخفية لمجتمعات أوروبا الشمالية اليوم. لم يكن ميكائيل بلومكفيست، شخصية عادية ولكن أيضا رمزية مقاومة للفساد والجريمة التي تنخر أوروبا الشمالية من الداخل. فهو غير متواطئ، على الرغم من الحسابات والضغوطات التي تمارس عليه يوميا من خلال عمله. رجل ذكي وصارم، يعرف جيدا النخب السياسية الحاكمة، والمؤسسات العليا في المجتمع السويدي، ويدرك أنماط تفكيرها الداخلي وبنياتها. فهو الصورة المضادة والعكسية لأوروبا الشمالية اليوم التي فقدت كل مؤشراتها الإنسانية. نستغرب أحيانا كيف تحولت هذه البلدان التي كانت النموذج الإنساني الأعلى، بسرعة نحو الطرف النقيض؟ الأراضي الطيبة التي استقبلت آلاف المنفيين، بالخصوص العراقيين، بعد حرب التفتت التي فرضتها أمريكا على العراق، وتحملت تبعات الحروب بنفس إنساني سامي، تتغير لدرجة السير في المسلك المناقض. ندرك سلفا صغر هذه البلدان ومحدودية طاقة التحمل لديها ونتفهمه، لكن الركض واللعب في ساحات اليمين المتطرف هو ما يجعل هذه التغيرات مثار أسئلة. لم يعد سرا اليوم أن الدنمرك التي كانت أرض لجوء، وأيضا محطة عبور اللاجئين إلى السويد وفنلندا، تغيرت كثيرا. الحكومة الليبرالية، ولأسباب سياسوية وانتخابية، أدخلت تعديلات كثيرة على قوانين الهجرة. لم تجد لمقاومة الهجرة الكثيفة من حل إلا إصدار قانون يذكِّر بالحرب العالمية الثانية والممارسات النازية، حيث كان المهجّرون هم الحلقة الأضعف اجتماعيا، وهم من يدفع الثمن بالاستيلاء على أموالهم، وحتى القروش الضعيفة التي يحملونها معهم. حكومة الأقلية الليبرالية الدنماركية اختارت، حتى تحدّ من تدفق طالبي اللجوء، مصادرة كل ما يحملونه من مقتنيات ثمينة وأموال تصل قيمتها إلى أكثر من 3000 كرونه دنماركية، يعني 437 دولارا، أثناء تفتيشهم على الحدود. ماذا تفعل هذه القيمة التي تترك لهم، عندما يواجهون خوفهم وجوعهم في أراضي الغربة والخوف، محملين بثقل عائلة وأدخنة الحرب؟ ماذا نسمي هذا؟ نهب موصوف تمارسه الدولة. طبعا، هناك ردود فعل من المجتمع المدني، لكنها لا تكفي لتوقيف تطبيق هذه القوانين الخطيرة. مهم جدا، لكن لا يكفي أن يقول النائب الدانماركي في البرلمان الأوروبي، ينس ورد: لا يمكن أن يكون أمرا صائبا أن نقبل قيامهم بمصادرة آخر قطع المجوهرات وآخر قطرة كرامة من اللاجئين عندما يصلون إلى الدنمرك. أو ما استتبعه من قوانين قطع المعونة الاجتماعية عن اللاجئين. يبدو واضحا أن السلالات السياسية كما يسميها ستيغ لارسن في كتبه ضد اليمين المتطرف وضد العنصرية، وفي ملينيوم، هي من يسيطر على المجتمعات الشمالية التي تعودت أن تحكم، ولا تهمها المصائر البشرية، إلا وفق ما يحسن صورتها الإعلامية، مصلحتها السياسية، ويظل التوحش هو سيد كل شيء، والجريمة، كما تصورها ملينيوم بدقة متناهية الثلاثية. فقد خسر الليبراليون طريقهم عندما خضعوا لتوجهات حزب الشعب الدنماركي العنصري والمعادي للمهاجرين، للحصول على الأغلبية الضعيفة التي تؤهلهم للحكم. المشكلة الكبرى ليست فقط في أحزاب التطرف، لكن أيضا في المجتمع الدانماركي الذي لم يحرك ساكنا أبدا وكأن العنصرية أصبحت مرضا معمما، مس المجتمع كليا، وليس فقط القيادات السياسية المتحالفة مع أحزاب هي في الأصل ضد الإنسان. رد فعل رود في هذا السياق، واضح: أتعجب وأبدي قلقي من أنه ليس ثمة غضب كبير بين الدنماركيين، وأنه ليس ثمة الكثير من الناس يهبون ويقولون إن ذلك لا يمكن أن يكون صحيحا. اثنت وزارة الهجرة على مشروع هذا القانون الجديد لأنه سيمنح السلطات الدنماركية صلاحية تفتيش ملابس وأمتعة طالبي اللجوء والمهجّرين الآخرين، من دون السماح لهم بالبقاء في الدنمرك، وذلك بحثا عن مقتنيات ثمينة تغطي نفقاتهم. ويتوقع الدنمرك، الذي بلغ عدد سكانه 5.6 مليون نسمة، وصول 20 ألف طالب لجوء هذا العام، مقارنة بنحو 200 ألفا متوقع وصولهم إلى السويد المجاورة. ويظل الليبراليون الضعاف يلعبون لعبة التوازنات حتى يحافظوا على وجودهم السياسي. فهم بين رحمة نواب حزب الشعب المتطرف، والديمقراطيين الاجتماعيين، المنتمين إلى يسار الوسط. لم تكن حالة المهجرين في الجارة السخية السويد أفضل حالا. هناك علامات تلوح في الأفق، عن الإبعاد القسري لعدد كبير من العراقيين برفض طلباتهم للجوء السياسي. وقد وصلت وثائق الطرد للكثير منهم، الذين لم يجدوا أمامهم من وسيلة تحميهم إلا التخفي. وحسب تقديرات الهجرة سيطلب 40 ألف شخص اللجوء السياسي خلال العام الحالي، ولن تقبل من هذا العدد إلا القلقة القليلة. وسينخفض عدد طالبي اللجوء في السنوات القادمة بشكل ملحوظ بسبب القوانين الضاغطة. في السويد التي تظل من أكثر بلدان الشمال استقبالا للمهجرين، بدأت القوانين الجديدة تفرض تحديدا للهجرة. في شهور قليلة انخفض حق الإقامة بالنسبة للعراقيين من 85% ليصل إلى 73% . وسيؤدي هذا إلى تكثيف عمل الشرطة لإبعاد الأشخاص الذين ترفض طلباتهم في الحصول على الإقامة. وتحضر دائرة الهجرة نفسها لإصدار قرارات صارمة لإبعاد 21 ألف شخصا لم يحصلوا على الإقامة القانونية. حتى فنلندا لم تشذ عن هذه الحملة. فقد أكد مسؤول في مكتب الهجرة الفنلندي على أنّ: مكتب الهجرة يأمل ويتوقع أن ينتهي من تدقيق معظم طلبات اللاجئين قبل عطلة الصيف القادم” مضيفا “وفي جميع الأحوال قد يتأخر بعضها حتى شهر آب. وكان مكتب الهجرة في فنلندا قد أعلن أن آخر الإحصائيات تفيد بوصول حوالي 32500 طالب لجوء إلى فنلندا عام 2015، بينهم أكثر من 20 ألف عراقي. ومعظم هؤلاء اللاجئين قدموا من شمال فنلندا، عبر مدينة تورينو الواقعة على مقربة من حدود السويد حيث دخل فنلندا من خلالها حوالي 15 ألفا. أفاد بأن التدقيق شمل حتى الآن حوالي 7000 ملف، فيما حصل حوالي 2000 شخص فقط على حق الإقامة، وعلى الباقي أن يستعدوا للطرد. وقد شهدت فنلندا إغلاقا متواترا للعديد من مراكز استقبال اللاجئين. وهذا يدل على أن المستقبل سيكون شديد التعقيد على المهجّرين حتى في البلدان الذين ظنوها مفتوحة على آلامهم وخوفهم، كما فعلت دائما، قبل أن تهب عليها رياح التطرف والعنصرية التي حذر منها ستيغ لارسن قبل عشر سنوات، وقبل أن تأخذه سكتة قلبية منعتنا من الأجزاء الرابع والخامس والسادس من ملينيوم.

Your Page Title