أثير – مكتب أثير في تونس
توضيب النصّ: محمد الهادي الجزيري
يأخذنا اليوم الأستاذ التونسي المتقاعد عن العمل التربوي صالح البلعزي، إلى منطقة “بَعَدْ” بوّابة قرى وادي دِمَاءُ والطَّائِيِينَ، ليحكي لنا ما حدث له فور وصوله إلى مشرق الشمس، في كنف الإعارة من قِبَلِ تونس لسلطنة عُمان سنة 1991 كأستاذ لغة عربية، يحكي بكلّ عفوية عن مضيّفه كيف احتفى به وأكرمه وأدخله بيته، وكيف تعلّق قلبه بالقهوة العُمانية، ويصف لنا وجه الحياة كيف كان في تسعينات القرن الماضي…
“لم أر أبسط ولا أمتع من عادات العمانيين في استقبال الضيف، ومن أوّل يوم وصلتُ فيه سلطنة عمان الحبيبة، نزلتُ ضيفا عند ابن قرية “بَعَدْ” بوّابَةُ قُرَى وادِي دِمَاءُ والطَّائِيِينَ، الأستاذ سيف المحرزي علمَ بوصولي إلى سكن المدرسة، فأسرع ليأخذني معه إلى مجلس خاص في بيته البسيط الأنيق، تغطّيه أشجار النخيل، يعبرها جدول ماء لنقائه كأنّه الزجاج المسيلُ يسمونه “الفَلَجُ” معجزة الأجداد في سلطنة عُمان.
من هنا تبدأ مغامراتي مع القهوة العمانية وسحرها، العمانيّ يجلسك ثم يجلس ويطعمك ثمّ يحذو حذوك، الضيف أوّلا وهو في المقام الثاني، اختاره طوعا بحثا عن رفعة المقام وترسيخ قيم التواضع والجود والإيثار، وكان الأستاذ سيف يجهد نفسه في التعريف ببلده وفي عينيه سعادة من ظفر بمعلّمٍ قطع المسافات، لينير عقول أطفال هذه القرية الجبلية النائية، كان ذلك سنة 1991م، لا طريق معبد ولا كهرباء ولا محطة إرسال تلفزي، قرية معزولة في المكان، لكنها متصلة بوجدان ساستها بنوا فيها أجمل المدارس.
حدثني عن عُمان ونهضتها وبركات سلطانها الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه-، كنت أستمع إليه بشغف ولم أقمْ من مجلسي إلا وقد أحببتُ عُمان وأهلها وجبالها المتراكبة أمامي، ونحن كذلك قدم طفلان عرفت أنّهما من نسل الأستاذ سيف أكبرهما يحمل دلّة القهوة، والثاني حمل إناء ماء تغمس فيه أصابع اليد اليمنى، فعلتُ مثلما أشار عليّ سيف بذلك، ثمّ وُضِعَ أمامي وعاء به تمرٌ يلمع لنقائه متراصَّ الحبات، أشار عليّ مضيّفي بالتمر فأخذتُ حبّة أو حبّتين يا الله عسلٌ ولا تمرٌ، مدحتُ حلاوته وأثنيتُ على طراوته، وأنا لا أسمع من الأستاذ سيف عدا كلمة “سوِّي سوِّي” بمعنى “كلْ”، خفت أن أزيد فيقالُ جشعٌ حلَّ بيننا، فامتنعتُ ساعتها أخذ دلّة القهوة وفتحها فطارت منها روائح عطرية منعشة، لم أشمّها من قبل ومكوّن آخر غريب، ولكنّه استهوى أنفي، فحرّك شوقي لتذوّق ما سيسكبه لي الأستاذ سيف في فنجان صغير لم أشاهد مثل شكله قبل اليوم، سكب بعض رشفات استغربتُ قلّتها وسلَّمني الفنجان بكلّ أدبٍ وتهيّبٍ وقال كعادته: “يا مرحبا أستاذ سوّي سوّي”
وسوّيتُ ويا ليتني ما سوّيتُ، صفعتني مرارة القهوة ودون شعور صرختُ: “آخخ مرّة علقم” ثمّ تنحّيتُ جانبا وتخلصتُ ممّا في فيَّ من قهوة، لم يتمالك مضيّفي فانطلق في موجة ضحك أسالت دموعه، وأسعدتني نعم شعرتُ بصدق الناس هنا وتلقائيتهم، قَبِلَ موقفي برحابة صدر ولم يغضب بل قال لي: “معليش أستاذ مصيرك تعشق القهوة العمانية وتأخذها معاك لتونس”، وكان ما قال: عشقتها وهامت بها زوجتي، وها أنا الآن وبعد عودتي إلى تونس صارت القهوة العمانية المتوشّحة بالهيل والزعفران أحيانا تجالسنا كلّ يومٍ، حتى لكأنّنا لم نغادر عمان القلب والحشا…”.