أثير- مكتب أثير في تونس
قراءة : محمد الهادي الجزيري
ثمّة كلمة قيمة للكاتب السعودي غازي القصيبي ، افتتحت بها الكاتبة مفيدة جاء بالله هذا المتن السرديّ ، وأنا أوافقها في هذا الاختيار الذي أعده الحقيقة الصرفة ..ولذا سأعمد اقتطافه كاملا علّه ينير العقول :
” خلف كلّ عظيم امرأة ، فمن خلفك؟
فأجاب : إذا أردتم الحقيقة ،
كلّهنّ في الأمام ، ونحن نسير خلفهنّ “…
نبدأ بالقصة الأولى ” سرّ القرية ” ، وما لفت انتباهي الصرخة الخافتة في مضمونها والمسكوت عنه ، ففيها إدانة للرجال من قِبل النساء ، فخلاصة القصة هجرة الجماعية للنساء ..وينهض الرجال فيتفّطنون إلى غيابهنّ دون إنذار مسبق ، ويتكفّل ( منتصر ) للبحث عنهنّ وإيجاد حلّ لهذه الفجيعة ..، وبعد سنين عديدة تقول له العرافة أنّ جميع النساء فررن إلى قريتها ومن يوافيها الأجل تتحوّل إلى شجرة ..، أعتقد أنّ الكاتبة ترفض هيمنة الرجل على كلّ شيء ..ووجدت منفّسا لها وللجور المستشري في بعض المجتمعات التابعة للعالم الثالث عموما ..، وفي خاتمة القصة تقول العرافة :
” ستكون سبعا عجافا، وكلّ من ينجو منها حلال عليه زوجه، تعود معه إلى القرية، وإن عدتم إلى شين فعلكم عادت النساء إلى هنا، تعيش ما طاب لها أن تعيش، ثمّ تتحوّل إلى شجر ”
قرأت قصة أخرى بعنوان ” أحلام ” عن رجل في الستين اسمه عثمان ..تحوّل إلى رخام في انتظار إخوته ..ربّما مات أو انتهى إلى رخام كما قلت ..، صراحة لم أفهم مغزى القصة أو غايتها ..، القصة التالية عنوانها ” يوم كاتبة ” وما أعجبني إصرار الساردة على الكتابة مهما جرى ..( قدوم ابنتها شبه نائمة لتنام حذوها ـ رنين الهاتف الجوّال ..ـ تذكّرها أنّ آلة الغسيل تعمل وأنّ عليها نشر الغسيل فيما بعد ـ احتراق الفرن والغداء …) المهمّ حرصها على تخصيص الوقت للكتابة ..وتجاوز جميع ما وقع وما سيقع ..لإتمام النصّ ..هذا أسلوب وإلحاح ليست الساردة ..بل إصرار مفيدة جاء بالله ………………..
” غيّرتْ الموضوع الذي كانت قد بدأته ، واستأنفت تكتب من جديد “

الشهيلي ..عنوان القصة التي أهدت اسمها للمجموعة ..، وهي تطرح موضوعا حسّاسا يتعلّق بالخيانة الزوجية ..، والأكيد مفيدة جاء بالله اختارت هذه القصة عنوانا للمجموعة نظرا لحبكتها وصياغتها الجميلة ..بصرف النظر عن الموضوع ..، فصراحة أبدت فيها الكاتبة نضجا بيّنا وأسلوبا وحياكة ..لذا اختارتها ..، أمّا مضمون القصة فامرأة ربّة بيت متزوجة وتعيش من أجل زوجها رغم قساوة الطبيعة ..، وتعدّ له ما يشاء وقت رجوعه من العمل ..والصدفة وحدها قادتها إلى معرفة خيانة زوجها ..، وحقيقة برهنت مفيدة جاء بالله أنّها ارتقت إلى رتبة عالية في فنّ القصّ ..ومن هذه القصة اتقيت لكم هذه الفقرة :
” كم استهلكتْ هذه الجملة من أعمار ، وكم استباحتْ من أنفس ، جملة كالمنشار ، قسمت الرؤوس نصفين ، وشظيت القلوب إلى آلاف قطع دون أن يُسفر ذلك إلاّ على علاقات بائسة، وأزواج مشدودين إلى بعضهم البعض كالبنيان المهترئ ، لا هو مرصوص فبقي على قوّته ، ولا انقض فزال وانتهى أثره ”
أختم هذه الإطلالة على ” الشهيلي ” بكلمة كتبتها مفيدة جاء بالله ..وسلّمتها لي قبل قراءة المجموعة ..، فلا أحد يستطيع التعبير عمّا بداخلها إلاّ هي :
” بعيدا عن ما يسمّونه الكتابة النِسْوية ، لأنّه وقع استهلاكها وبعيدا عن همومي الشخصية لأنّها حتما تتوازى وتتشابه مع هموم الملايين من البشر ..، أنا أرى العالم من زاويتي التي لن يرى أحد منها ما أراه..، ولي كلمتي التي لن يقولها غيري ومع ذلك أنا أرى نفسي في كل قصة كتبتها ، فكلّ ما كتبت رأيته حقيقة أو حلما وعايشته في واقعي وتصوراتي..، أنا رأيت هذا العالم شتاتا ، وأنا أجمعه في داخلي أراه غربة وتفردا وتحجرا وخذلانا ..، وأنا أرمّمها في قصصي وأعيدها للحياة كما أشتهي ان أراها..”