أثير – مكتب أثير في تونس
حاوره: محمد الهادي الجزيري
كم لنا في الأرض من إخوة طيّبين، هذا ما ردّدته نفسي وأنا أسمع صوت الدكتور المغربي عبدالمجيد بنجلالي، قادما عبر الواتس آب من عُمان، مرحبّا بي، المهمّ أجرينا حوارا شيّقا ومعرفيا فيه الذاتي والجماعي، تحدّث ضيفنا عن مسقط الشمس بحبّ بالغ، وتطرّق خلال كلامه إلى مواضيع شتّى، ذاكرا ما شدّه للبقاء في عُمان من 2007 إلى الآن، ومتحدّثا عن الساحة الثقافية العُمانية ورموزها…
– من 2007 سنة التحاقك بجامعة نزوى بسلطنة عُمان، وأنت مختلط بالمجتمع وبخيرة نخبه، كيف ترى المستوى الذي بلغه الشعب العُماني في انفتاحه على الآخر وقدرته على التواصل مع مختلف الجنسيات الأخرى؟
اخْتِلاطي بالمجتمع العُمانيّ وبأرْضِ عُمانَ، يُمكن أن أَعُدَّهُ مرحلةً ثانيةً، بعد المرحلة الأولى التي تمّت بالمغرب، حين كانَ الطلاّبُ العمانيون يَفِدُون -ولا يزالوُن- إلى المغرب لإكمال دراساتهم العليا هناك نتيجة الحظوة التي حظيَ بها العمانيون بعد أن قرّرت وزارة التعليم العالي بالمغرب تخصيص خمسين منحةً سنويةً للطلبة العمانيين للدراسات العليا بالمجان، في مقابل خمْسٍ وعشرين منحة لكل دولة من الدول الأخرى، فبالمغربِ تعرَّفتُ على أُنموذج من الطلاب عُرفوا بسَمْتيهم، وصَمْتِم، وتواضعُهم، وحُسن سيرتهم، وتشاء الأقدار أن أحُلَّ بأرضهم وأتَعرّفَ عليهم عن قُرْب عبْر بوّابةِ التعليم الجامعي والبحث العلمي…
ما لاحظتُهُ في المجتمع العُماني بعد اختلاطي بخِيرة أهلِه وعلمائه والصُّلحاء من رجَالاته من أمثال سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي والشيخ عبدالرحمن بن أحمد الخليلي وعبدالله بن حمود الحسيني والشيخ حمود محمد الحسيني والشيخ سالم بن عبد الله الحارثي، قُدْرةُ العمانيين على التكيُّف مع فقْه الواقع، ومُسايرة الحياة الاجتماعية، ومُواكبة التوجّهات المعرفية الحديثة والمعاصرة، مع الارتباط والعَضّ بالنّواجذ على أصالتهم، والاعتزاز بالموروث الثقافي لديهم.

فالمجتمع العُماني يَجْذِبك إليه لتُصبحَ ضمنَ نسيجهم الاجتماعي دون أن تشعُر بذلك لمجموعة من الخصال يطول شرْحُها وسَرْدها وبَسْطُها في هذا المقام..، ويكفي شاهدًا ودليلًا على ذلك، أنّ كل الجنسيات تتعايش وتعيش في أمْنٍ وسِلْم وسلام إلى حدّ تُصبِحُ مُخَدَّرًا بالبقاء معهم وبينهم….
– بعد 16 سنة… يمكن القول أنّك أصبحت ابنا من أبناء مطلع الشمس، فكيف قضيت طول هذه المدّة… هل لك أصدقاء وخلان…، هل وجدت صعوبة في التأقلم والاندماج في بداية الإقامة؟
كنتُ أعتقد أنّي قضيتُ عشْر سنواتٍ، إذا بالمبدع الجزيري يُرسلُ إليَّ عَبْر تَداعياتِه الشّعرية ليكشِفَ بذلك عن حُجُبي ويُذكّرني بأنّي أمْضيتُ ستّةَ عشر عامًا…، أُصِبْتُ بالذّهول! لم أكنْ، وأنا حالٌّ بالمكان، لأعُدَّ السّنواتِ التي مرَّت كَلمْحٍ بالبصَر. ولعلّ السّببَ يعودُ في ذلك إلى أنّ البلدَ بلدُ أُلفةٍ ووئامٍ، يَجْذِبُك إلى البقاء فيه بمغناطيسٍ وبِسحْرٍ خَفيّ..، وربّما يعود السّرُّ في ذلك إلى كوْني تعرّفتُ على أُناسٍ من مختلف الفئات الاجتماعية، وكلّ فئة تجذبك بشخصيتها وتواضعها، وبعلمها وإنسانيتها، أو بالتخصص الذي يؤلّفُ بين هذه المجموعة أو تلك، ويبقى القاسمُ المشترك بينهم جميعا: التواضع والأخلاق.. وأذكر من هؤلاء: معالي الأستاذ الدكتور أحمد بن خلفان الرّواحي وزير الزراعة والثروة السمكية سابقًا، ورئيس جامعة نزوى حاليًا. وأعْزو نسبة كبيرة من بقائي بالسلطنة إلى جاذبية هذا الإنسان العظيم وصِدْقه ووطنيته التي لا مِراءَ فيها، وإخلاصِه في عَمله وغيرها من المواصفات التي كانت سببًا مباشرًا في تفسير مدّة بقائي..، وأذكر كذلك الأستاذ الدكتور أحمد الحراصي عالم الكيمياء وفخر سلطنة عمان، ومعالي الدكتورة شريفة اليحيائية وزيرة التنمية الاجتماعية سابقا…، وليعذرني أصدقائي الكرام فلم أتمكّن من إدراج أسمائهم وهي كثيرة….
– ما يفوق العشرين كتابا في مختلف العلوم والفنون، منها العلمي والمهني والأدبي…، كيف توزّع وقتك لتفتكّ هذا الحيّز الهام من العزلة للكتابة…، خاصة مع منصبك الجامعي الذي يتطلّب الوقت والجهد؟
نشرتُ مجموعةً من المؤلفاتِ في النقد، والأدب، وتحليل الخطاب، والسيميائيات، والترجمة، وتحقيق النصوص، والإبداع القصصي، مع ملاحظة أنّ أغلبَ مؤلفاتي نشرتُها وأنا بالمغرب لسبب واحد، وهو أنّ نظامَ التعليم الجامعي بالمغرب يُتيحُ الفرصة ويُوفّر الطاقةَ والوقتَ للكتابة والتأليف..، أما النظام الأنجلوساكسوني المعمول به في الخليج العربي؛ فإنّه يُضيّقُ من هذه الدّائرة إلا إذا كنت عصاميا تستغلُّ أوقات إجازاتك للكتابة والتأليف..، ثم إنّ نظام التعليم الجامعي يُلزمك بالعمل الأكاديمي والعمل الإداري ولا وجود فيه للاستفادة من ساعات التدريس حسب الدرجة العلمية مما هو معمول به في المغرب والجزائر وتونس..، ومع ذلك فقد نشرتُ ثلاثة كتب بعمان، ولدي الآن أكثر من سبْعةِ كُتبٍ أخرى تحتاج فقط إلى فُسحةٍ من الوقت لإكْمالها، وكلّما هممْتُ بالعودة إليها حاصرتْني الأعمالُ الإدارية والأنشطة الثقافية والعلمية، مما يُسبّبُ لي نوعًا من القطيعة، وتحول بيْني وبين إتمامها إلى حدٍّ يتعذّر عليَّ أحيانًا إحياءُ صلةِ الرَّحم معها نتيجة البيْنِ والفراقِ والهجْر الطويل، إذ كان هجْرًا جميلًا.
– سنغتنم حضورك معنا ونطلب منك نزرا قليلا أو فقرة قصيرة من قصّة أو مقطعا شعريا ليطّلع القراء على نبذة من إبداعك الأدبي؟
أنموذج من شعري:
شمْسُ المدائن
على بِسَاطٍ مِنْ حَرِيرٍ كُنتُ أزْهُو،
مَرفوعَ الهَامَةِ،
أحْمِلُ في حَقيبَةِ رأسي
أحْلامِيَ الجَمِيلةْ،
أسْبَحُ في كُلّ البِحَار،
وأرْتَقِي إلى الشّمُوسِ المُنِيرَةْ.
لا أعْبَأُ بالأنْجُمِ؛
فالحُلْمُ واعِدٌ وعَرِيضٌ
وأبْوابُ المَعَالي قريبَةْ…
– هل لديك إطلاع على الأسماء الفاعلة في المشهد الأدبي العماني؟ وهل ثمة أسماء شدّتك تجاربها في الأدب عموما؟
كلّما همَّ إنسانً بالوقوف والنظر في المشهد الثقافي العماني ببصره وبصيرته لابدّ له، من باب الأمانة والإعجاب والاعتراف بالفضل ونسْبته إلى ذويه، أن يقف وقفةَ إجلالٍ واعترافٍ من زاوية رُؤيتي الخاصّة والمُتابِعة بعمق لكلّ ما هو معرفيّ وثقافي؛ أنّ هناك عصريْن ذهبييْن طبَعا المسيرة الموفّقة للثقافة والإبداع ببصمة خاصّة رفعتْ من منسوب عمان في بورصة الكتابة والإبداع والثقافة، ورجّت كثيرا من دول الخليج العربي وزحزحتْها من مكانتها في سُلَّم التّرقّي والعُروج الذي كان لبعْضها من قبل، وجعلت عمان تعيش عصريْن ذهبيين في الوقت الرّاهن وهما:
العصر الذهبي الأول: ويتمثل في منصّة النادي الثقافي التي أوْصلت سلطنة عمان إلى مكانةٍ رفيعةٍ وجعلت لها مقامًا معلومًا في عالم السّرد القصصي والروائي بلا منازع..، كان ذلك في عهد الإدارة الموفَّقة للشاعر حسن المطروشي، وكان من بين أنشط القائمين بهذا الحراك الثقافي: سليمان المعمري، والخطاب المزروعي، وحمود الشكيلي…
العصر الذهبي الثاني: هو الذي تعيشه سلطنة عمان اليوم في ظل الجمعية العمانية للكتاب بإدارة الشاعر سعيد الصقلاوي الذي جعل من الجمعية مركز إشْعاع معرفي تمثل في المنشورات والمطبوعات التي أخذتها الجمعيةُ على عاتقها بحيثُ شارفتْ إلى حدود السّاعة على طبْع ونشْر ما يقاربُ ثلاثَمائة كتابٍ جمعت كلَّ الاجناس الأدبية بعمان، وأعتقد أن ما قدَّمْتُهُ من نماذج كافٍ لتقديم صورة فاعلة ومُشعّة عن المشهد الأدبي بعمان بفعل هذه الجهود في مجال الإبداع والدراسة والنشر، ليتهيّأ المجال، بعد حصول التراكم في النشر، إلى الانتقال إلى مرحلة النّقد والتقييم.
وإذا كان أغلب الفاعلين في المشهد الثقافي قد تمّ ذكْرهم من قبل فلا بأس من ذكر بعض الأسماء التي شدّتْني إليها أكثر، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر:
في مجال الأبداع الشعري:
هلال الحجري، وسعيد الصقلاوي، وحسن المطروشي، وسعيدة خاطر، وهلال السيابي، ولبيد العامري، وعائشة السيفي، وحمود العيسري، وزهران القاسمي…
في مجال الإبداع السّردي:
هُدى الجهوري، وجوخة الحارثي، وبشرى خلفان، وسليمان المعمري، والخطاب المزروعي، وعبد العزيز الفارسي، ويعقوب الخنبشي، ومحمود الرحبي، ومحمد الرحبي، ومنى حبراس، وبشائر حبراس…
ومن الفاعلين في الفكر والثقافة أذكر:
عائشة الدرمكي، وسعيدة خاطر، وأحمد الفلاحي، وشريفة اليحيائي، ومحمد اليحيائي، وسلطان الشيباني (في حقل تحقيق التراث المخطوط).
– الأكيد أنّ لك راحتك الخاصة بعيدا عن رتابة اليوميّ…، وأنت مقيم في نزوى… أي المناطق أحبّ إليك… وترتاح فيها وتعود إليها؟
لم أفكّر في البحث عن أماكنَ سياحية لأخْلدُ فيها إلى الراحة..، فأنا من النوع الذي يُفضّل شيئين في الطبيعة: بحرٌ ممتدٌّ أُجيل النظر فيه وأجلس على شطآنه، وسهولٌ خضراء على مدّ البصر أرتشفُ منها ببصري رحيقَ الإبداع وتداعياته، ولذلك كُنت أحُجُّ في بعض الأحيان إلى العاصمة مسقط لأسبحَ في بحْرها بعد الفجر، وأجلسَ بعد ذلك على شاطئها لأدوِّن ما يَفيض عليَ من تدفُّقٍ بعد نبْش مخزوناتي وتفعيل شِعابِ تخيُّلاتي..، وفي السنتين الأخيرتيْن بدأتُ أكتشف سواحل جميلة في عمان ومناظر صخرية بالألوان المختلفة في بعض الجبال فضلًا عن مدينة صلالة: قِبْلة الجمالِ ومهْد الجلال بظفار وقد جُبْتُ أغلبَ مسالكها انتعاشًا برذاذها، واستمعت بإمعان إلى أساطيرها التي تُروى هناك، ولهذا الموضوع بقيّة…
– كلمة الختام… تُرى ما لم تقله أبدا لعُمان…، رسالة ودّ وامتنان… وما لم تبح به للمغرب رسالة حبّ واشتياق…؟
عندما أكونُ بالمغرب، يكون معي قلبِي، وأتركُ عقلي بعُمان..، وعندما أحُلّ بعُمان أعكس الآية..، وكلَّما كان التّباعُدُ زادَ العِشقُ والهُيام..، وعُمانُ والمغرب كلاهُما واقعٌ في أقْصى نقطةٍ من بلاد العرب المسلمين: عمانُ في أقصى الشّرق، والمغرب في أقصى الغرب، ولله المشرق والمغرب… فالموقع الجغرافيُّ ناءٍ وقاصٍ، والعِشقُ قريبٌ ودانٍ…